أم كلثوم حين غنت من ألحان صالح الكويتي

2014-10-24

الناقد الفني عبد الوهاب الشيخلي

أم كلثوم حين غنت من ألحان صالح الكويتي


أم كلثوم .. حين غنت من ألحان صالح الكويتي

عبد الوهاب الشيخلي

كانت المطربة أم كلثوم قد حضرت إلى بغداد عام 1932، وفي هذا العام حضر محمد عبد الوهاب أيضاَ.. وكان الجمهور في العراق قد تعرف عليهما من خلال الاسطوانة السوداء المستديرة عندما سجلت في العشرينيات بعض الأغاني والقصائد مثل (افديه إن حفظ الهوى) وقصيدة (وحقك أنت المنى والطلب) و(الصب تفضحه عيونه)، هذه القصائد من تلحين الشيخ أبو العلا محمد، غناها بنفسه مع عدد آخر من القصائد إلى جانب الحان طبيب الأسنان احمد صبري النجريري، الذي قدم لها هو الآخر أجمل الألحان، مثل (مالي فتنت بلحظك الفتان) و(الفل والياسمين).. كل هذه الأغاني كان العراقيون قد استمعوا إليها في ذلك الحين، واخذ البعض يرددها، خاصةً إن معظمها يخاطب الوجدان بأسلوب رقيق لم يعهدوه من قبل... وعندما وقفت لتغني بعض تلك الأغاني الخفيفة والقصائد استقبلها الجمهور العراقي استقبالاً حافلاً، ذكر لي حسين عبد الله - ضابط الإيقاع المعروف - إنها تعجبت من هياج المستمعين وتصفيقهم الحاد عندما غنت الأغنية العراقية المعروفة (كلبك صخر جلمود)، وهي من تأليف عبد الكريم العلاف والحان صالح الكويتي.
يبدو أنها لم تعهد من الجمهور العربي مثل ذلك الاستقبال الذي حفزها على الإجادة والتحليق في سماء الموسيقى العربية والشرقية، والحقيقة إن هذه الأغنية لم تكن تلائم أم كلثوم، خاصةً إنها كانت على إيقاع صعب لا يمكن أن يؤديه إلا أهل العراق واعني بهِ إيقاع (الجورجينه).
باغتني الصديق خالد علي القاضي يوم 1/5/1946 بسؤال غريب: هل تود أن ترى أم كلثوم؟ كان جوابي: في أي دار للسينما، فضحك، وقال: أن تراها شخصياً، ثم أردف قائلاً: إنها في بغداد وستحيي حفلة واحدة غداً في قصر الرحاب بمناسبة عيد ميلاد الملك فيصل...!
لكن هذا قصر الملك...!!!
لا عليك احضر غداً الساعة الخامسة عصراً وانتظرني قرب عمارة عمي حافظ القاضي، وسنذهب بسيارة النقل الخارجي...!
وفي اليوم التالي حضرتُ إلى الساحة الواقعة قرب المصور أرشاك، ووقفت إلى جانب العمارة، وبعد قليل جاءت السيارة وكانت على شكل صندوق كبير يحتوي على أجهزة النقل، واعتذرَ خالد لأنه لا يستطيع أن يأخذني معه حيث أصر شقيقه على الحضور لسماع أم كلثوم شخصياً، وقبل أن تتحرك السيارة خرج حافظ القاضي وأوصاهم بحسن التصرف وقال: أنكم تذهبون إلى قصر الملك.
وبعد أن عاد حافظ القاضي إلى العمارة تمكنت من إيجاد مكان مناسب في السيارة.. وبعد ربع ساعة وجدنا أنفسنا في حديقة القصر، حيث تم بناء مسرح صيفي، أمامه عدد كبير من الكراسي لجلوس المدعوين، ومنهم عدد كبير من الوزراء والموظفين الكبار، وبعض من العسكريين الذين أخذوا يتوافدون عندما بدأت الشمس تميل إلى الغروب.
وجدتُ نفسي بعد ذلك بالقرب من هذه الفنانة الكبيرة، كانت تجلس على الكرسي، وأخذ بعض المدعوين يقدم لها إعجابه الشديد بصوتها وأدائها وحفلاتها الشهرية، وشاهدت أحدهم يقدم لها عشرة دنانير عراقية لتوقع عليها، ولم أكن أملك حينها ربع دينار لتوقع عليه.
وبعد أن انفض عنها المعجبين، وبقيتْ لوحدها، تقدم منها أرشد العمري رئيس الوزراء الأسبق، فقالتْ معاتبة: إنك لم تسأل عن أخي خالد الذي هو طريح الفراش، فأعتذر وقال لها انه لم يسمع بذلك، ووعدها بالحضور إلى القاهرة لزيارته، وتمنى له الشفاء العاجل.
ولاحظتُ انه الوحيد الذي تركتْ كرسيها من أجله وذهبت معه إلى حديقة القصر، وكانا يتحدثان بأمور وذكريات ربما تعود إلى عام 1932 عندما زارت بغداد، حيث كان في ذلك الوقت أمين العاصمة، وفي فترة الاستراحة الأولى وجدت نفسي مع أم كلثوم، والستارة مسدلة، كانت تنظر إليَّ وتبتسم، وتتوقع أن أكلمها.. لكني كنت أنظر إليها، وفي ذهني أسمهان التي ذهبت إلى عالم الخلود قبل سنتين تقريباً..
وقد لاحظتُ الغشاوة في عينيها، وقلت في نفسي لا شك إن ذلك نتيجة سهرها الطويل، وعملها في الأفلام التي تتطلب نوراً ساطعاً في اغلب الأحيان، نظرت إلى أم كلثوم طويلاً، هذه المرأة التي عاشت في القرية وامتلكت ناصية الغناء المتقن بعد أن وهبها الله حنجرة ذات حبال صوتية متميزة.. كيف استطاعت بعد أن وصلت إلى القاهرة أن تؤثر في كل من استمع إليها، وهي تنشد في البداية مع شقيقها ووالدها واحد أقرباؤها بعض الأناشيد والموشحات الدينية؟.. وكيف انتقلت بعد ذلك إلى الغناء الدنيوي مع آلات موسيقية محدودة، لا تتعدى العود والكمان والطبلة والرق؟ إن من يستمع للاغاني القديمة يتملكه العجب، ومن استمع لحفلاتها الشهرية يزداد عجباً، ففي خلال ما ينوف على الثلاث ساعات تغني أجمل وأصعب القصائد والأغاني، وتقود الفرقة الموسيقية، وتتنقل في عالم الأنغام من دون أي خطأ أو تحريف... هذا ما فعلته تلك الليلة في قصر الرحاب عام 1946...!
كانت حنجرة أم كلثوم ومنذ العهد الأول لحياتها الفنية تمتلك كل مقومات الصوت الساحر القوي الذي يلعب بالأفئدة ويثير في النفس أجمل العواطف والنفحات الوجدانية، سيذكرها التاريخ الغنائي، والموسيقي العربي على أنها فريدة قوية في مجال الأداء مع معرفة تامة في اختزان الهواء واختلاس الأنفاس والتهيؤ لاستقبال الامتدادات الصوتية، خاصةً في حروف الألف والياء والواو، مع السيطرة على الميزان الموسيقي والغنائي، وعدم الخروج عنه، وهذا يعتبر من أهم عناصر الغناء في العالم كله.
الحفلة
لم يكتب عن حفلة أم كلثوم التي أحيتها في قصر الرحاب مطلقاً، كأنما أُريد لها أن تكون ضمن حدود خاصة بالمكان، حيث كان الجميع يرتدون الملابس السوداء إلى جانب عدد كبير من العسكريين، وحضور عدد لا يستهان بهِ من الحرس الملكي، وحين ظهرت أم كلثوم على المسرح الصغير استقبلت بتصفيق خجول، وبدأت الفرقة الموسيقية تعزف موسيقى (الليلة عيد) التي أنشدتها في فيلم (دنانير)، والذي عرض عام 1940، وهي من كلمات احمد رامي والحان رياض السنباطي، وحين ذكرت اسم فيصل الثاني قوبلت بعاصفة من التصفيق.. وبعد استراحة قصيرة، غنت قصيدة (سلو كؤوس الطلا)، واذكر إنها غنت الأغنية الخفيفة (غنيلي شوي شوي)، وعندما أسدل الستار أسرعتُ بالوقوف قرب أم كلثوم، لكن احد الوزراء تقدم إليها وقال: إن الوصي عبد الإله يرجو أن تغني له قصيدة (وحقك أنت المنى والطلب)، فاعتذرت قائلة: إن هذه الأغنية قديمة وتتطلب (بروفة)، وإنها لم تعد تتذكر بعض كلماتها، وكان محمد القصبجي قد ادخل نصف العود في كيس من القماش عندما أشارت للفرقة الموسيقية للعودة ومتابعة الحفلة التي امتدت إلى الساعة الثالثة صباحاً، وبدلاً من القصيدة التي طلب أن يستمع إليها الوصي غنت (كل الأحبة ثنين ثنين)، وذكر لي صديقي خالد علي القاضي: إن نوري السعيد طلب أغنية (افديه إن حفظ الهوى) فلم تلبي طلبه للسبب نفسه. فآتني أن اذكر إنني التقيتُ بالملحن المبدع محمد القصبجي، وتحدثت معه عن الألحان الرائعة التي قدمها إلى أسمهان، وأبدى أسفه الشديد لموتها المبكر، والقصبجي هو أستاذ محمد عبد الوهاب، وقد قدم لام كلثوم وغيرها من المطربات عشرات الأغاني التي لها قيمة فنية عظيمة، لكن الحظ خانه في سنواته الأخيرة.. وهكذا هي الدنيا دائماً.
جريدة كل شي 1964

تهيئة الطابعة   العودة الى صفحة تفاصيل المقال