سيد درويش ليس فنانا شعبيا

2015-10-12

د. فتحي الخميسي

سيد درويش ليس فنانا شعبيا


سيد درويش ليس فنانا شعبيا
بقلم : الدكتور فتحي الخميسي
أستاذ في المعهد العالي للموسيقى العربية في القاهرة


رحل وتركنا في شهر سبتمبر عام 1923 الرجل الكبير للموسيقي المصرية سيد درويش ، ولهذه المناسبة إجتمعت ندوة “ قنديل أم هاشم" بالقاهرة تحتفل بذكراه وفيها أطل رجل يطلب الحوار، وما أن تلقفه حتي ألقي برأيه الخاص والغريب في الوجوه :
الرجل – ما تقولوش "سيد عمل النشيد" وعمل " كاني وماني" أهمية سيد درويش تكمن في إنه
شعبي .. وهو شعبي لأن ألحانه بسيطة وسهلة جدا وجدا !
أجبته على الفور : يعني إيه شعبي ! هو سيد درويش مثل الريس متقال ماسك ربابه !
الرجل – لا .. متقال والرباب محدود ومغمور هناك في الريف .. أو في قرية في الصعيد، آما الشيخ سيد فالمنتشر الأول عند كل الشعب .. لأنه شعبي حقيقي !
دارت على الوجوه حينئذ علامات الضحك الخفيض والمتواري فقد أخطئ الرجل مرة وراء مرة وراء مرة، فلا سيد درويش فنان شعبي ولا ألحانه سهلة جدا وجدا، ولا هو المنتشر الأول عند كل الشعب، كما إن متقال ليس محدودا ولا هو مغمور! وعكس ذلك هو الصحيح .. عكس كل ما قاله !! حتي إننا لو قلبنا كل رأي من آرائه لضده لأستقام المعني وباتت الفكرة صحيحة تماما .. ولنقم بقلب أرائه الآن وننظر لضدها الآن :
• سيد درويش ليس فنانا شعبيا وإنما مدنيا وممثلا لغاية تطور موسيقي المدن .
• سيد درويش منتشر عند فناني المدن الكبري وليس "عند كل الشعب" فلا الريف ولا البدو ولا الصعيد ولا السواحل ولا النوبة أو أسوان يعرفوه !
• متقال هو الفنان الشعبي - الشعبي الحقيقي ! وفنه (مثل السيرة الشعبية والموال القصصي) منتشر على إمتداد مدن الصعيد كلها.
• ألحان سيد درويش ليست سهلة المنال مقارنة بألحان متقال وبالالحان الشعبية عامة.
• الألحان الشعبية كألحان متقال (وليست ألحان الشيخ سيد) سهلة جدا وجدا لأنها تتكون دائما من لحن واحد بسيط ومتكرر، ويكفي النظر لبناء الأغنية الشعبية الشهيرة "اما نعيمة " لرؤية هذا .. و" أما نعيمة " مكونة من لحن واحد وحيد، يشغل الكوبليه الأول :

- أما نعيمة – نعمين – خلي عليوة يكلمني
- أنا قلت لأبويا وشرت عليه يدفع لي المية وعشرة جنيه
وسرير ودولاب والراديو عليه. أما نعيمة . . . .
ثم يتكرر حرفيا في الكوبليه الثاني :
- أما نعيمة – نعمين – خلي عليوة يكلمني
- أنا قلت لأخويا وشرت عليه ليجيب لي نحاس والبفته عليه
ووابور وحصيرة والكنبه عليه – أما نعيمة . . . .
وتجري على هذا كل الكوبليهات ... فالأغنية الشعبية ككل الفلكلور الغنائي تعتمد على لحن واحد سهل و"غير متعرج " أي لا يمر بعدة مقامات أو عدة إيقاعات وإنما يستخدم مقام واحد وحيد وإيقاع واحد وحيد. وهذا اللحن الواحد قصير ولابد أن يكون قصيرا ولا يشغل زمن كبير، ويقوم بالضرورة على عدد قليل من النغمات (أي قليل الحجم وعدد الخطوات) وعكس ذلك تماما تأتي ألحان المدن كألحان سيد درويش والتي لها دائما نغمات ومقامات عدة. واغاني الشيخ سيد الهامة مثل " أنا هويت " و" أنا عشقت " كثيرة التعرج وممتلئة بالتفاصيل والتحولات اللحنية وتغيرات النغم صعودا وهبوطا، قفزا وإنتقالا! يشهد على صعوبة آدائها كل موسيقي محترف. سيد درويش ليس سهلا بحال وإنما يبدو – من شدة تدفق ألحانه – سهلا .. واتصال ألحانه في الاغنية الواحدة وتلاحمها كل هذه اللحمة يجعلها تبدو لحنا واحدا متصلا وبالتالي سهلة الترديد! يشهد على ذلك موشحه الصعب والمعجز والفريد .. متفوق الصياغة على كل ماعداه من موشحاتنا "منيتي عز إصطباري" .. الجوهرة المكتظة بالتبدلات اللحنية الرفيعة. والحقيقة إن الفارق بين "أما نعيمة" و"منيتي" هو ذلك الفارق الكبير بين عالمين كاملين.
يظن البعض أن إنحياز سيد درويش للبسطاء والفقراء وتعبيره عنهم يعني أنه " فنان شعبي " وربما نجد لهذا الظن عذرا .. إلا أنهم يعودوا فينظروا لمطرب مثل محمد رشدي ليرونه فنانا شعبيا أيضا .. وفقط لأن لحنه الموسيقي بسيط ! ومطرب مثل شعبان عبد الرحيم لتشكل غنائه من جملة لحنية واحدة متكررة يصبح شعبيا هو الآخر! ناهيك عن ظنهم إن اللحن الراقص أيا كان لحنا شعبيا، ولابد والحال هكذا اعتبار المطرب الذي يستقدم أغنية أو طريقة شعبية من الريف ليقدمها في دور الإذاعة والبث بالقاهرة (كما فعل أحمد عدوية حين استقدم الموال الريفي وصاغ على غراره) شعبيا كذلك!
وكأن صفات الراقص والمتكرر والثابت دون تنويع والساذج هي للحن الشعبي .. أو أن صفات التسطيح إنما تعود للموسيقي الشعبية المصرية "الفلكلور" ! وهي في الحقيقة صفات أغاني القاهرة والعواصم الآنية واغاني الاذاعة والتلفزيون الحالية .. أي صفات تدهور موسيقي المدن !
وفي كل الأحوال لا ينبغي الخلط بين المدني كأغاني شادية والشعبي كغناء الريس متقال ويجب التنبه إلى أن "الموسيقي المصرية تنقسم إلي شعبية ومدنية، وان الفن الشعبي "الفلكلور" هو ما ينتجه الشعب نفسه كالموال أو السيرة أو معزوفة المزمار لرقص الخيل، والمدني هو ما تنتجه المدينة ذاتها كاغاني شادية وأسمهان، ولا يمكن لواحد ان يحل محل الآخر" فلكل منهما (المدني والشعبي) مكان إقامة مستقل وكل منهما نتاج لحياة اجتماعية واقتصادية مختلفة" ، والمدن لا تبدع فنا شعبيا ولا تملكه وإنما تستقدمه وتتشدق به .
وإذ يستند الفن الشعبي إلي آلات موسيقية خاصة (مايعني نغمات مختلفة) وتختلف آلاته بالضرورة عن آلات المدني (كإختلاف المزمار الشعبي عن العود المدني) فإن إختلاف الآلات هذا هو بحق الفارق الحاسم بين الموسيقي الشعبية ككل والمدنية ككل ... بل والقاطع تماما بين متقال الشعبي صاحب الرباب وسيد درويش المدني صاحب العود، ناهيك عن إختلاف المضمون الموسيقي إختلافا كليا بينهما :
عندما يذهب العمال البناة في وضع أساس لعمارة تقوم في القريب فإنهم ينقسمون لمجموعتين .. واحدة تدفع بكرة الأحمال (أسمنت أو جبس أو طين) والأخري تتلقفها وتطرحها جانبا لتدفع الأولى بالكرة الثانية فتتلقفها المجموعة الثانية مرة أخري .. وهكذا تتحرك الآيادي ذهابا وإيابا. وحينئذ يشتعل غنائهم مقسما ما بين المجموعتين بما يدعي في أوراق الموسيقي " الغناء التبادلي " والذي يروح ويجيء ما بينهم (في تعاقب) مع حركة أجسادهم للأمام وللخلف :
مجموعة 1 شدوا الحيل
مجموعة 2 هات يا بشندي
مجموعة 1 ربك هادي
مجموعة 2 ربك قادر
مجموعة 1 ربك واهب
مجموعة 2 ربك يعطي
مجموعة 1 ربك يرحم
مجموعة 2 ربك عالم
مجموعة 1 يالله وسمي
مجموعة 2 هات يابشندي
مجموعة 1 هون علينا
مجموعة 2 يا مهون
ومثال :
مجموعة 1 هيلا هيلا
مجموعة 2 صلوا ع النبي
مجموعة 1 هيلا هيلا
مجموعة 2 سايرة والنبي
وهذا مضمون مختلف تماما عما للمدن فهو " فن جماعي " ، وإذا كان للمدن قوالب موسيقية (أنواع من الصياغة) غير معروفة للموسيقي الشعبية كالموشح والقصيد فإن للشعبية كذلك .. وهذا "الغناء التبادلي" غير معروف لسيد درويش أو للمدن، وهو النمط الأسهل حقا (السهل الممتنع) ولحنه هو الأقل نغما والأكثر تكرارا والأعم إنتشارا . وبما أن أصحاب هذا الفن الشعبي هم سكان الريف والصحراء والصعيد والسواحل والنوبة وأسوان وهم الاكثر عددا فلا يصح القول بأن فنان المدن سيد درويش هو "المنتشر الأول عند كل الشعب" وإن كان أكبر رجال الموسيقي العربية .
ومسألة الخلط هذه (بين الشعبي والمدني) قد تحدث في بلاد أوروبية بعيدة، إذا ما أعتقد بعضهم إن رجل مثل بيتهوفن - لمجرد انتشاره الواسع - موسيقي شعبي ! مع أنه ممثل لموسيقي المدن الألمانية ويستخدم فرقة المدن "الاوركسترا السيمفوني" ! ويبدو من ذلك انه لا مهرب من وقوع هذا الخلط أحيانا فالبلاد الأوروبية كلها تعاني نفس الإنفصال المرير بين الشعبية والمدنية .. ووجود عالمين منفصلين فنا وثقافة في إطار أمة واحدة !

د فتحي الخميسي
fathimisi@hotmail.com
 

تهيئة الطابعة   العودة الى صفحة تفاصيل المقال