نشرت جريده الرأي الاردنية في عددها المرقم 16485 والصادرة اليوم الاحد الموافق 10/1/2016 مقالاً عن الموسيقار روحي الخماش وهذا نصه
هشام عودة وحكاية موسيقار عربي عظيم:
أبواب-وليد سليمان
لقد كانت فرصة طيبة ان نستمع في قاعة الندوات في مقر رابطة الكتاب الاردنيين الى ثلاثة من الفنانين والنقاد، د. علي عبدالله، هشام عودة، حسين دعسة، وهم يتشاركون في القاء الاضواء على علم من اعلام الموسيقى العربية الراحل «روحي الخماش»، المعروف جيدا بين الاوساط الفنية والموسيقية في العالم العربي، والعراقي بالذات لانه عاش مجمل حياته في بغداد منذ العام 1948 وحتى رحيله في1998 اي بعد (50) سنة من العطاء الموسيقي والابداعي المتواصل.
حتى صدرت عن حياته بعض الكتب والدراسات ومن اخرها كتاب الشاعر والناقد الاردني هشام عودة «الموسيقار روحي الخماش سيرة وانجازات».
الطفل المعجزة
وكان الموسيقار روحي الخماش قد ولد في مدينة نابلس في فلسطين، وابدى نبوغه مبكرا منذ سنواته الاولى حيث اهتمامه بالموسيقى والغناء العربي، فما كان من والده الا ان اشترى له (عودا) وهو يزال في سن السابعة من عمره!! ومن ملامح موهبته انه كان في المدرسة الطالب الشهير بتقديم الاناشيد المدرسية والغنائية بصوته الجميل.
وفي تلك الفترة تعلّم العزف على العود والغناء جيدا على يدي احد اقاربه الذي سبق له ان درس الموسيقى في تركيا.
وذاع صيت هذا الطفل المعجزة في الفن وساعده والده على ان يتلقى ويقدم غناءه امام عمالقة الفن والموسيقى من امثال: ام كلثوم ومحمد عبدالوهاب، عندما كانا يأتيان لاقامة حفلات الغناء في يافا والقدس في فترة ثلاثينيات القرن الماضي.
يقف أمام ام كلثوم وعبدالوهاب
وفي سن العاشرة من عمره شاءت الظروف ان يحظى بالوقوف والغناء امام سيادة الغناء العربي ام كلثوم اثناء زيارتها لمدينة يافا، واحياء حفل على مسرح مقهى ابو شاكوش في المدينة عام 1933، حيث غنى الصبي روحي الخماش، امامها موشح «سكتُ والدمع تكلم» لمحمد القصبجي، فقبّلته ام كلثوم واثنت عليه وطلبت منه مزيدا من الغناء.
ويتابع مؤلف كتاب «الموسيقار روحي الخماش – سيرة وانجازات» هشام عودة مشيرا بقوله: ومثل ذلك فعل الموسيقار محمد عبدالوهاب حين استمع اليه، وزاد على غيره من الفنانين الذين قابلهم بان قدم له هدية رمزية اعجابا به وتقديرا
لموهبته، وكانت تلك هي الهدية الاولى التي يتلقاها روحي الخماش في حياته من فنان بحجم وشهرة محمد عبدالوهاب.
وفي تلك السنوات ذاع خبر الفتى الموهوب، وصار معروفا في مدينته وباقي مدن فلسطين، وكتبت عنه الصحف، واصبح نجم حفلاته المدرسية، وقد لقي دعما كبيرا من اساتذته وزملائه.
في شرقي الأردن والعراق
ووصلت اخبار روحي الخماش الفنان الصغير السن الى سمو الامير عبدالله بن الحسين امير شرقي الاردن، الذي استضافه في ديوانه الاميري في عمان، واستمع اليه وهو يغني الموشحات والادوار لكبار المطربين، فاعجب به واثنى على موهبته، واقترح الامير عبدالله الاول على ابن شقيقه ملك العراق الملك غازي ان يستضيفه في بغداد.
وبالفعل في العام 1935 وصل روحي الخماش الى بغداد تلبية لدعوة الملك غازي الذي استضافه في قصره واستمع الى اغانيه التي زاد عليها الخماش بان غنى امامه ايضا مجموعة من الاناشيد الوطنية ومن شدة اعجاب ملك العراق بصوت هذا الفتى وموهبته قام باهدائه ساعة يده الشخصية مع مبلغ من المال، وامر ان تستضيفه الحكومة العراقية ستة اشهر احيا خلالها عددا كبيرا من الحفلات.
وكتب عنه الصحف العراقية واستمع اليه مجموعة من ابرز فناني العراق وتحول رغم صغر سنه الى نجم، فتحت امامه ابواب قصور الملوك والامراء.
الفتى الموظف في إذاعة القدس
ورغم صغر عمره 13 سنة فقد وافقت اذاعة القدس على توظيفه فيها وكان اصغر العاملين سنا، فقد اشتغل فيها بوظيفة مطرب وعازف ومقدم برامج فنية وموسيقية، حيث رافق وواكب اسماء شهيرة في اذاعة القدس منها مثلا: الشاعر ابراهيم طوقان، كوثر النشاشيبي، فهد النجار، محمد غازي، فاطمة البديري، يحيى اللبابيدي، يحيى السعودي، خليل السكاكيني، خليل بيدس، اسمى طوبي.. الخ.
وكان روحي الخماش قد ذهب الى القاهرة ما بين الاعوام 1937 - 1939 لدراسة الموسيقى في القاهرة بمعهد فؤاد الاول للموسيقى العربية والتي كانت فيها الدراسة لمدة خمس سنوات لكنه انهى تعليمه بمدة اقل من نصف الزمن المطلوب لنبوغه وعبقريته الموسيقية، ورجع الى اذاعة القدس ليصبح رئيسا للفرقة الموسيقية في هذه الاذاعة.
50 عاماً في بغداد
وفي عام النكبة الفلسطينية 1948 تعرضت الأذاعة للهجوم من العصابات الصهيونية، وتدمير مبناها في حي الطالبية في القدس الغربية، ورجع روحي الخماش الى مدينته في نابلس، وفي تلك الاثناء، والاوضاع في فلسطين مضطربة، قام الحاكم العسكري العراقي لمدينة نابلس «طاهر الزبيدي» باستدعاء الفنان روحي الخماش، حيث اشاد بدروه الوطني وموهبته وشكره على مشاركته باحياء عدد من الحفلات الموسيقية للجيش العراقي، وطرح عليه فكرة القيام بزيارة بغداد، وقد منح الزبيدي في ذلك الوقت الفنان الخماش تصريحاً عسكرياً من اجل تسهيل مهمة وصوله الى العراق، فوافق الخماش للسفر الى بغداد بصحبة مجموعة من الفنانين العراقيين الذين كانوا موجودين في فلسطين في تلك الفترة لاحياء حفلات فنية في قواعد الجيش العراقي المرابط في فلسطين، وقد وصل الخماش بغداد في شهر تموز من عام 1948 مع شقيقته دنيا وفردوس في سيارة عسكرية عراقية.
محطة حاسمة في حياته
وفي بغداد، وجد روحي الخماش أفقاً اوسع للعمل الفني ووجد نفسه ينهل من تراث فني وغنائي عريق لم يكن متوفراً له ايام اقامته في القدس.
ففي اذاعة بغداد التي يوظف فيها تولى مباشرة قيادة الفرقة الموسيقية المسائية، هذه الفرقة التي كانت تقدم اغانيها ومقطوعاتها الموسيقية كل مساء، وعلى الهواء مباشرة، واليه يعود الفضل بتأسيس القسم الموسيقي في اذاعة بغداد وتطويره ورفده بكفاءات موسيقية محترفة.
وهناك في بغداد يلتقي روحي الخماش مع استاذه استاذ الموشحات العربية المعروف الشيخ علي الدرويش الذي سبق ان تعلم منه الكثير اثناء عملهما معا في اذاعة القدس، حيث قاما معاً في بغداد بتأسيس فرقة الموشحات الاندلسية حيث كان الدوريش في سن الثمانين اما الخماش في سن الخامسة والعشرين فقط.
وعمل ايضاً الخماش استاذاً لتدريس العزف على العود عام 1953 في معهد الفنون الجميلة في بغداد.
وعاش روحي الخماش الموسيقار خمسين عاماً في العراق، وعاش معها تقلبات الاوضاع السياسية ايضاً، وان ظل منحازاً الى فئة الاصيل، ومؤكداً على انتمائه العروبي والقومي بعيداً عن الانتماءات السياسية في اطارها الحزبي.
ورغم ذلك فكثيراً ما كان يعزف ايام زعماء العراق في حفلاته ومن بينهم مثلاً عبدالكريم قاسم وصدام حسين.
من مآثر الخماش الموسيقية
- اثار ثورة في مجال الموسيقى وعلومها في بغداد قراءة وكتابة النوطة الموسيقية ونظرياتها حيث التف حوله اغلب العاملين في حقل الموسيقى. وهم مذهولون من قدراته ومؤهلاته وسعة مداركه الفنية, اذ كان اغلب الملحنين انذاك يحفظن الحانهم شفاهاً بسبب جهلهم بكتابة وقراءة النوتة الموسيقية.
- انه اول من درس النشيد والموشحات في بغداد, وقام باعداد اجيال متعاقبة في هذا الميدان.
- وهو من ابرز الذين لحنوا ونشروا الاناشيد الوطنية في ارجاء العراق.
- الخماشي من انضج وادق الذين دونوا المقام العراقي والغناء الريفي بالنوتة الموسيقية بعد جهود مضنية امتدت ثلاث سنوات حقق مع الباحث ثامر العامري كتاب (المقام العراقي والغناء الريفي).
- اثبت الفنان روحي الخماشي قدرة فائقة بتأسيس الفرق الموسيقية والانشادية بكفاءة تنظيمية عالية.
- اثرت مؤلفات الفنان روحي التي تزيد على 100 مؤلف المكتبة الموسيقية وبقيت جميع مؤلفاته لرصانتها مادة ثقافية فنية للفرق الموسيقية ومناهج المدارس والمعاهد.
- اهتم الخماشي بصناعة العود وتاريخه حيث الفيلسوف الفارابي وصفه للعود السباعي.
- ان جميع العاملين في مديرية الموسيقى والغناء في بغداد كانوا يعودون اليه في كل ما يتعلق بعملهم.. فهو المرجع الاول عند جميع الاجيال من الموسيقيين والمؤدين.
صفات وأخلاق وهوايات
يصفه صديقه الموسيقار الدكتور علي عبدالله بأنه كان زاهداً متصوفاً في الموسيقى, يعتقد أن هذا سبب رئيسي في عدم زواجه! وكان يهتم كثيراً بتربية الطيور في مزرعته والصيد. وكان هادئاً متواضعاً, الا انه حاد متمسك برأيه عند الحديث في شأن الموسيقى ولا يقبل التهاون, ويتمتع باذن موسيقية خارقة للعادة ويستطيع تدوين ما يسمعه فوراً. كان يعشق اغاني محمد عبدالوهاب ويتمتع بصوت رخيم جميل. وكان مؤمناً متديناً صام رمضان في ذات رحلة الى موسكو. وقد اوصى قبل وفاته بثروته وبريع مزرعته لطلابه وللمهتمين بالموسيقى, وتوفي في العام 1998 في بغداد رحمه الله.