السرقة في العمل الفني ... ما أثير عن الفنان الساهر مثالاً
2019-01-22
عاصم الجلبي
السرقة في العمل الفني ... ما أثير عن الفنان الساهر مثالاً.
طُرحت في الآونة الأخيرة مُبادرة إتخاذ لحن نشيد الأستاذ الفنان كاظم الساهر (سلام ٌ عليك ...) كنشيد وطني للجمهورية العراقية من قبل بعض الفئات السياسية العراقية، وفي نفس آن ظهور هذه المبادرة ظهرت أصوات أخرى لنقاد ومتابعين للموسيقى في العراق تتهم الفنان الساهر بقتباس او سرقة لحن السلام الجمهوري الأول للفنان العراقي الراحل لويس زنبقة.
حقيقة لا أعرف الفنان الساهر شخصيا ولم ألتقي به بحكُم ظروف التمزق والاغتراب التي نعيشها نحُن العراقيون وكذلك حياة المنافي التي أصبحت أوطاناً لنا. ولكني وجدتُ من احدى المهام المُهمة هو تسليط الضوء على هذه الظاهرة وهي نعت الفنانين وخصوصا الموسيقيون منهم بالسرقة لانتحالهم بعض الجمل الموسيقية من اعمال موسيقية عالمية او من مصادر موسيقية أخرى.
أن الاطلاع على تاريخ الموسيقى العام يُخبِرنا عن انتحالات واقتباسات قام بها كبار واساطين الموسيقى العالمية من اعمالا موسيقية أخُرى, قاموا بانتحالها وتحويرها وإضافتها لخلق اعمالا موسيقية آخُري، والامثلة هنا كثيرة وقائمتها تطول ولنبدأ على سبيل المثال بيوحنا سباستيان باخ Johann Sebastian Bach (1685-1750) اب الموسيقى الكلاسيكية الغربية، فعملهُ الموسيقي الخيالي لأربعة آلات من فصيلة الكلافيكورد (آلة سابقة لآلة البيانو وتعتبر السلف لها) (BWV 1065) اصلاً مُقتبس من عمل موسيقي للموسيقي الإيطالي فيفالادي Antonio Vivaldi(1678-1741) وهو كونسرت لأربعة آلات لآلة الكمان (Violine) (RV 580 Op. 3 Nr.10.) مع انهُ أي باخ لم يُنكر ذلك ابداً وهناك اقتباسات أخرى كثيرة لهُ من موسيقيين أخريين. الطفل المُعجزة W.A.Mozart (1756-1791) هناك عددٌ لا يُحصى من اقتباساته الموسيقية ويكفي أن نقول افتتاحية الناي السحري
(Zauberflöte) (KV 620) مُقتبسة من بيانو كونسرت ل (Clementi Piano Concert Op. 24 no.2). وهناك اقتباسات أخرى للعديد من كبار الموسيقيين الغربيين من بتهوفن إلى فاجنر وفرانتس ليست وبرامز وشستكوفيج وغيرهم الكثير ولا يكفي المجال هنا لذكر وتعداد هذه الاقتباسات.
إن الوقوف على هذه الانتحالات الكثيرة والنظر اليها من زاوية السرقة او (اللطش) كما يحلو لبعض المتابعين لهذه الانتحالات وصفها سوف يصل بنا إلى نتيجة أخيرة بأن جل هؤلاء الفنانين سُراق قاموا بسرقة هذه الالحان وإخراج اعمالا أخرى اكثرُ عظمة مما قاموا بقتباسه وانتحالهِ. وعلى هذا الأساس يجب تسقيط كبار موسيقيي الحضارة الكلاسيكية الغربية وإلغاء جميع أعمالهم المشتبه بها بالاقتباس إن لم نلغها جميعا، فهل يعقل أن يتم اليوم اسقاط وحذف السمفونية الخامسة لبتهوفن من التراث الإنساني لكون بتهوفن قد استلهم من النشيد الفرنسي Marseillaise الحركة الرابعة لسمفونيته الخامسة ؟! أضف إلى ذلك ماهية الُتراث الإنساني؟ فهو بالأخير عبارة عن تراكم معرفي يشمل جميع جوانب المعرفة والعمل الخلاق في الفن والادب وباقي النشاطات الفكرية الإنسانية وهنا نتكلم بطبيعة الحال عن الموسيقى، فلولا تراكم هذا الكم الهائل من العمل الخلّاق الموسيقي لأجيال عديدة في أوربا من الاخذ والعطاء، لما وصلت الموسيقى الكلاسيكية الاوربية ما عليه اليوم وخلفها ألف عام من التُراث الموسيقي الأنساني، لذا فإن ظاهرة استلهام الالحان من الغير وتطويرها ودمجها ليست بسرقة وليست بتهمة بأي حال من الأحوال.
ولم يقتصر الامر على النقل والانتحال في مجال الموسيقى بل تعداه لمجالات أخرى في عالم الابداع الفني والادبي، فهل لنا إن نعتبر اقتباس جورج برناردشو لفكرة الأسطورة اليونانية بجماليون (Pygmalion) ليخلق منها عملا ادبيا رائعا كُلل بأن يكون فلماً سينمائياً هو (سيدتي الجميلة) (My Fair Lady) سرقة أم ماذا؟ وهل كان برتولد بريخت سارقاً عندما استوحى من (The beggar’s Opera) فكرتها ليخلق منها عملا ادبياً كلُل بأن يكون اوبريتاً غنائياً رائعاً (التأليف الموسيقي Kurt Weill) هو اوبريت القروش الثلاث (Die Dreigroschenoper)؟ سرقة ام ماذا؟ ولمزيد من الاطلاع حول موضوع الاقتباس والانتحال في العمل الفني والادبي يرجى مُراجعة مقالة المايسترو سليم سحاب وعلى الأنترنت (محمد عبد الوهاب وحقيقة السرقات الموسيقية).
حددت الجمعية الدولية للمؤلفين والملحنين (International Rostrum of Composers) ومقرها باريس الحدود والضوابط في حالات الاشتباه بسرقة الألحان التي تندرج تحتها أفعال السرقة وتم صياغتها في القانون الدولي الذي صادقت عليه معظم الدول. إن عملية نقل أكثر من 4 موازير موسيقية كاملة متتالية تكوّن جملة أو نصف جملة موسيقية من لحن ودمجها في لحن آخر، تعتبر عملاً جنائياً يحاسب عليها القانون إذا ثبت النقل بصفته اعتداء على الملكية الفكرية وبحكم القاعدة المذكورة فإنه إذا زاد النقل على 4 موازير اعتبر سرقة، وإن قل عن ذلك اعتبر نقلا لا يجرم بالقانون. (تشـــابه ألحـــان. أم ســرقة؟ بحث وتحرير: د. أسامة عفيفي. مقالة على الأنترنت).
ويحضرني بهذا الخصوص ما تعرض لهُ الموسيقار محمد عبد الوهاب منذ أن أصدرت منظمة اليونسكو بجناحها العربي في سنة 1979 لائحة تضم 13 أغنية لمحمد عبد الوهاب متهمة إياه بسرقة ألحانها من أعمال موسيقية غربية، أضف إلى ذلك ما تعرض لهُ عبد الوهاب من انتقادات واسعة حول اقتباساته الموسيقية خلال عمره الفني الطويل، وسأشير هنا بصورة خاصة إلى أحد اعماله الموسيقية وهو افتتاحية قصيدة (سجى الليل) من أوبريت قيس وليلى, حيث اقتبس الأستاذ محمد عبد الوهاب المسار اللحني للمازورة الأولى (يطلق مصطلح الحقل، أو المازورة على كل وحدة من التقسيمات الزمنية في المدرج الموسيقي التي يحددها الميزان) من افتتاحية (المارش السلافي) (Marche Slave, Op. 31) للموسيقارTchaikovsky جايكوفسكي والذي نفسهُ قد انتحل الموضوع الأساسي لهذا المارش من أغنية شعبية صربية هي (Sunce jarko ne sijaš jednako) وقام بالبناء التأليفي الاوركسترالي عليها وكان جايكوفسكي هنا عظيماً باستخدامه لهذا اللحن مع أنهُ قد انتحلهُ وجعل منهُ عملا موسيقيا رائعا لا زال يُعزف في صالات الموسيقى المُنتشرة في العالم ويذاع من وسائل إعلامها, لذا في تقديري لا يهم هنا إن كان جايكوفسكي قد اخذ لحنٍ من هنا أو هناك ولكن المُهم ماذا فعل بما اقتبس؟ وهل خلق عملا موسيقياً جيداً ام رديئاً مما اقتبس؟
لنقارن المسار اللحني للمأزورة الأولى والثانية من افتتاحية (سجى الليل) للأستاذ محمد عبد الوهاب بالمسار اللحني للمازورة الأولى والثانية من المارش السلافي لجيكوفسكي:
قمنا بإرفاق اللحنين بالنوطة الموسيقية (بعد التوحيد المقامي للمثالين) ليتسنى لمن يقرأ التنويط الموسيقي الوقوف على المقارنة. كما نلاحظ هنا بأن الأستاذ محمد عبد الوهاب قد اقتبس المسار اللحني للمارش السلافي ومن غير تغيير ولكن قام بتغيير المدد الزمنية للأصوات المكونة للمسار اللحني لافتتاحية قصيدته (سجى الليل)، ومن ثم قام بإكمال ما اقتبسهُ من عندياته ليخلق عملا فنياً جديداً راقياً يضاف إلى قائمة أعماله الكثيرة. أضف إلى ذلك مقدار ما اقتبسهُ هو مازورة ونصف المازورة وهنا لا يجرم عليها القانون وتعتبر سرقة كما بينا اعلاه، وهنا أيضا لا يهمني إن كان الأستاذ محمد عبد الوهاب قد أخذ من هنا أو هناك ولكن ما يهُمني هو خلقهِ لعمل فني جديد يُعتبر اليوم واحداً من أعظم إنجازات الموسيقى العربية الا وهو اوبريت قيس وليلى (نظم احمد شوقي لحن وغناء محمد عبد الوهاب واسمهان).
لنرى ماذا فعل الساهر؟
لويس زنبقة (1928 ـ 1979) موسيقي عراقي من جيل الرواد كان زميلاً للموسيقي الراحل فريد الله ويردي وأخيه منُير. لم احصل معلومات عنهُ من العراقيين المخضرمين ومن اللذين عاصروه هنا في (فيينا) سوى عن طريقة رحيله!؟
كتب لويس زنبقة نشيدهُ هذا خلال وجوده في فيينا عندما كان طالباً واعُتمدّ كسلاماً جمهورياً للجمهورية العراقية الفتية في ذلك الوقت.
قمنا هنا بإرفاق النوتة الموسيقية لبداية السلام الجمهوري والملحن من قبل زنبقة وكذلك نوتة الساهر المقتبسة منهُ بعد التوحيد المقامي لهما. نلاحظ هنا تشابه المسار اللحني لكلا اللحنين مع تغيير طفيف عند الساهر، إن مقدار التشابه او الاقتباس هو بحدود المازورتين في الجزء الأول من نشيد الساهر. وهنا لا يجرم عليها القانون وتعتبر سرقة كما بينا سابقاً
اما الجزء الثاني من نشيد الساهر فالجزء المقتبس منهُ بحدود المازورة الواحدة مع بعض التغيير، علماً بأن الساهر قد استفاد من الشكل الايقاعي لهذه المزورة المُقتبسة لُيكمل بها بقية مازورات الجملة الموسيقية وهنا التفاتة ذكية من الساهر، تدُل على تأمُل وطول تفكير
وذلك بالاستفادة من الشكل الإيقاعي وتوظيفهُ لحنياً ليكمل الجملة الموسيقية المُلحنة، وحقيقة هذا ما كنتُ قد تطرقتُ لهُ أعلاه، فلا يهم من اين وكيف اقتبس الساهر، ولكن ما يهم هنا هو الاستفادة وتطوير الفكرة الموسيقية لخلق عمل موسيقي جديد.
إن من يتباهى باكتشافه لسرقة موسيقية مُتلبسا بها أحد الموسيقيين للإقلال من قيمة المتهم بالسرقة، يضعُ علامة استفهام على علمه وثقافته الموسيقية.
وكما بينا أعلاه، فأن صفة السرقة لا وجود لها وليست بتهمة بأي شكل كان في العمل الفني أو الادبي، بل وبالعكس من ذلك فهناك من اقتبس وأحسن صنعة مما اقتبسهُ وفي حالة الفنان الساهر إن كان اقتباسه عن دراية أو عن توارد خواطر فهو في الأخير إتمام وإعادة اعتبار للفنان العراقي الراحل لويس زنبقة فتحية للفنان العراقي الساهر، الذي استلهم من فنان عراقي آخر عمل فني يُضاف إلى إعماله، وتحية وسلام لروح الفنان العراقي الراحل لويس زنبقة الذي رحل عنا وهو في منفاه (فينا/النمسا) بعيد عن وطنه العراق وفي ظروفٍ سوداوية وغامضة.
موسيقي عراقي مُغترب
السلام الجمهوري الاول للفنان لويس زنبقة ( 1958 - 1963)