القطار في التراث الغنائي العراقي - د. باسل يونس ذنون

2020-09-16

د. باسل يونس ذنون الخياط

القطار في التراث الغنائي العراقي - د. باسل يونس ذنون


 
القطار في التراث الغنائي العراقي
الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ متمرس/ جامعة الموصل
للقطار حضور واضح في التراث العراقي لما تكتنفه رحلة القطار من ذكريات تبقى منقوشة في الوجدان، وللقطار حضور واضح في التراث الغنائي العراقي، وستتناول هذه المقالة ثلاث أغناني من مناطق مختلفة من العراق للقطار حضور خاص فيها.
أغنية (صاح القطار قومي انزلي):
تقع بلدة (حَمّام العليل) 27 كم جنوب شرق الموصل، على ضفاف نهر دجلة، وتشتهر حَمّامها بمياهها الكبريتية الحارة مما أكسبها شهرة متميزة نظراً لاستخداماتها العلاجية، فضلاً عن موقعها السياحي حتى أن اسمها اقترن بحَمّامها الشهيرة. ولأهل الموصل ذكريات جميلة مع حَمّام العليل و (تل السبت) المجاور لها، ويطلق الموصليون على بلدة (حَمّام العليل) اختصارا (حَمّام علي).
ذكرها ياقوت الحموي، وقال عنها الرحالة الفرنسي تافرنييه: "رسونا قرب حَمّام حار المياه، على بعد رمية بندقية من دجلة، وكان مزدحماً بالمعلولين الذين أمُّوه للاستشفاء من كل حدب وصوب. وهي تتألف من عدة عيون معدنية أهمها ثلاث: العين الكبرى، وعين زهرة، وعين فصوصة، وهي ذات مياه كبريتية حارة وتنبع عند الشاطئ الأيمن". وكذلك ذكرها الرحالة الإنكليزي جون أشر عام 1864م، عند خروجه من الموصل على ظهر (كلك) متوجهاً إلى بغداد فقال: "وصلنا إلى (حَمّام علي) وفيه تنبع عيون كبريتية من تربته القريبة من النهر، وكانت رائحة البخار الخارجة منه نفاذة ولاذعة للغاية، والرياح تحمله إلى مكان وقوفنا".
لقد كان القطار في الزمن الجميل ينقل الناس إلى (حَمّام العليل) للاستشفاء من الأمراض الجلدية وللاستجمام وقصد (تل السبت)، وقد ألّف الأستاذ الدكتور محمد صديق الجليلي (1903-1980) كراسا بعنوان "الاصطياف في حَمّام العليل".
لقد كانت النساء المُسنّات يعتقدن أن الصعود فوق (تل السبت) يمكن أن يجلب الحظ للفتيات غير المتزوجات، ويجعلهن يتزوجن بأسرع مما يتوقعن. وكانت العوائل في القرن الماضي تقصد حَمّام العليل أيام الخميس والجمعة والسبت من كل أسبوع، وبعد أن يتناولون طعامهم ويستحِمّوا في عيون المياه المعدنية تبدأ رحلتهم بالصعود إلى تل السبت نهار السبت إذا كانت العائلة تنشد تزويج بنت لها فاتها قطار الزواج.
وكان الناس يستقلون القطار عند توجههم صوب (حَمّام العليل)، وعند وصول القطار يصيح بصافرته العالية للتنبيه. فحفظ الفولكلور الموصلي تلك المشاهد والأحداث، وما يرافق تلك الرحلة الجميلة من صور وأحاسيس وتقاليد بالأغنية الفولكلورية التي تصور بريشتها تلك الفعاليات من خلال كلماتها (باللهجة الموصلية):
صاح القطار قومي انزلي .... كن وصلنا حَمّام علي
دطلع على تل السبت .... معاي هرجي وكم بنت
نغني ونفغح كل وقت ... وارجع واقول ادللي
والله اش دعمل عمل ... وازهابي مايشيلو جمل
وكل شي عندي كن كمل ... والدهن يملي امزملي
دعزم انا كل الخلق ... متونسي من ضيق الخلق
كل من يغشعني ينشلق .... وانا مسعودي امفنجلي
لما اغوح على الحَمّام ... ايهلهلولي القيام
اسبح واشويه انام ... اقعد الدولمه تنغلي
اشلح واقعد على معين ... اضوي كل القيعدين
كنيني من حور العين ... وجسمي فضه مكعكلي
دشلح عباتي واشتهر ... واسفر على ضو البدر
كل من يغشعني ينبهر ... والليل بيي ينجلي
وانزل على حيفت الشط ... والسفغه يمي تنحط
واحمغ خدي وانخط .... بلذهب غجلي مجلي
وانزل على اغض العوين ... وانصب الجاي عل ميزين
كل من تمر بل ايدتين ... اقلا عيني اتفضلي
الله عطاني غجال ... يلبس زبون واعكال
لا ياشيطان اش حيال ... كل يوم بمودة يبتلي
 
 
 
وقد غنى أيضا هذه الأغنية، بعد إجراء تحويرات عليها، الرائد ذو الأصول الموصلية محمد عبد المحسن (1930-1983) والذي أستشهد في حادث انفجار إذاعة بغداد عام 1983.
 
 
 
أغنية (حَمَّل الريل وشال):
"الريل" هو القطار كما يسمونه في جنوب العراق، وهو مأخوذ من الكلمة الإنكليزية (rail) وتعني (سكة حديدية). وبعد تسيير أول قطار بين بغداد والبصرة عام 1920، ودخول القطار مدينة النـاصـريـة ظهرت أغنيـة تشيـر إلى هـذا الحدث الهام وهي أغنية (حَمَّل الريل وشـال للنـاصـريـة).
وقصة هذه الأغنية أن شابا وقع بحب فتاة وأحبها حبا شديدا ورغب في أن تكون شريكة حياته، ولكن الأقدار شاءت أن تلعب دورا في غير صالحهما؛ حيث انتقلت عائلة الفتاة من تلك المنطقة إلى مدينة الناصرية. حضر الشاب إلى محطة القطار لتوديع حبيبته، وكان وداعا مؤثرا القى فيه آخر نظرة عليها عندما أطلت عليه خلسة من إحدى نوافذ العربة التي أقلتها، وما أن توارى القطار عن الأنظار حتى شعر بالخيبة والأسى وقفل راجعا وهو يسير بخطى بطيئة على غير هدى وقد أثقلته الهموم وهو يقول:
حَمَّل الريل اوشال للناصرية ... وشبلش المحبوب وابهل قضيه
أما الفتاة التي وقعت بحبائل الحب معه فقد امسيت على شاكلته وسرعان ما اصبحت وحيدة بعد مفارقة حبيبها وأخذت تذوب كما تذوب الشمعة وتذبل كأوراق الخريف بعد أن ذهبت جميع أحلامها أدراج الرياح.
غنى هذه الأغنية معظم الفنانين الرواد كما غنتها فرقة الانشاد العراقية.
 
 
أغنية " قطار الليل":
أغنية "مرينا بيكم حمد" من بقايا رذاذ الزمن الجميل وتتضمن كلماتها "القهوة" التي لها خصوصية خاصة في المضايف العربية الأصيلة وتعبّر عن الأصالة والتراث. كما تتضمن كلمات هذه الأغنية "قطار الليل" و"الريل" الذي يطوي بين جناحيه الذكريات الدفينة التي عايشناها في قطارات الزمن الجميل.
كلمات هذه الأغنية تحمل في طياتها معاني عميقة من الحزن والألم التي تجيش في وجدان الشاعر تعبيرا عن ما بدخله من مشاعر دفينة. ولأغنية "مرينا بيكم حمد" موقع متميز في أرشيف التراث العراقي وقد غنها العديد من الفنانين والفنانات العراقيين والعرب منهم وليد الشامي والهام المدفعي وساجدة عبيد ورحمة رياض وآخرون. كما قام مطربون آخرون بعمل مداخلات معها؛ مثل مداخلة " بيَّن عليا الكِبر".
وضع كلمات هذه الأغنية مظفر النواب، وهو شاعر عراقي من مواليد بغداد 1934، وهو معارض سياسي بارز وناقد، تعرّض للملاحقة والسجن، عاش جزء من حياته في الأهوار مختفيا عن السلطات آنذاك، ثم تنقل بعدها في عدة عواصم منها بيروت ودمشق ومدن أوربية أخرى، وقد عاد إلى العراق عام 2011م.
أما الملحن فهو الفنان المبدع طالب القرة غولي (1939-2013)، وهو من مواليد قرية النصر التابعة لمدينة الناصرية. وأما المطرب فهو الفنان الكبير ياس خضر، وهو من مواليد النجف الأشرف عام 1938، بدأ حياته قاطع تذاكر في مستشفى (أبو صخير) ثم بات علامة مضيئة في سماء الغناء العراقي.
قصة الأغنية:
أوحى لمظفر النواب بتلك القصيدة حادثة وقعت أمامه سنة 1956 خلال سفره إلى البصرة بقطار الدرجة الثالثة، وكانت تلك القصة هي المحرِّض الذي دفع الشاعر بعد ذلك للبدء ببناء القصيدة التي سماها "للريل وحمد" مع هدير عربات القطار وسط سكون الليل وظلامه الحالك.
وقد أكمل مظفر النواب القصيدة سنة 1958 ولم ينشرها، ثم قرأها يوما لأصدقائه فأعجبوا بها كثيرا، فأخذها أحدهم ونشرها بدون علمه بجريدة "المثقف" فأحدثت ضجة كبيرة بين الناس ونالت شهرة واسعة بين مختلف الأوساط.وبعد عشر سنين غناها ياس خضر، وتُعد واحدة من أجمل أغانيه.
بطلة هذه القصة الحقيقية فتاة تسكن منطقة الأهوار. ويتحدث الشاعر مظفر النواب قائلا: "كنتُ مسافرا بالقطار من بغداد إلى البصرة، فجلستْ في المقعد المقابل امرأة أربعينية وكانت سهرانة لا تنام، وعندما مرَّ القطار قرب قرية (أم شامات) ولم يقف، بدأت تحكي لي قصتها الحزينة".
تبدء هذه القصة بفتاة يافعة تقع بشباك حب شاب من قريتها، وتتطور العلاقة بينهما، ثم يتركها الشاب لتتحمل هي ثمن الحب لوحدها. ووفقا للتقاليد والأعراف العشائرية العراقية قرر أهلها قتلها حتى يتخلصون من العار الذي أصابهم.
وفي إحدى الليالي أخذها أهلها بالقطار حتى يبتعدون عن المنطقة ويقتلوها بعيدا عن أنظار الناس، فصادف أن مروا بالطريق على مضيف حبيب هذه الفتاة، وأسمه "حمد"، فلما انتبهت هي لهذا الأمر وسمعت كلامهم وصوت دك الكهوة التي كانوا يقدموها بالمضيف بدت تنشد هذه القصيدة، والتي تبتديها بقولها:
مرينا بيكم حمد واحنا بقطار الليلْ ... واسمعنا دك اكهوة وشمينا ريحة هيلْ
وتنتقل الفتاة لمخاطبة القطار وتطلب منه أنه يمشي ببطء حتى تظل أطول فترة ممكنة بقرب حبيبها بحجة أنها خايفة من القطار لا يكعد القطا (الكطه) اللي عايش تحت (حدر) السنابل من النوم وتقول له:
يا ريل صيح بقهر صيحة عشك يا ريل ... هودر هواهم ولك حدر السنابل كطة
وتستمر بمخاطبتها للقطار لعدم وجود شخص آخر عندها تحكي له قصتها وتبدي تشكي له من حبها اللي طلع كذاب (دغش) وحبيبها الذي تركها وتحملت هي ثمن الحب لوحدها طوال العمر (ياريل طلعوا دغش والعشك جذابي .. دك بيه كل العمر ما يطفة عطابي.. تتوالف وية الدرب وترابك ترابي .. هودر هواهم ولك حدر السنابل كطة ). وبعد ذلك وعلى الرغم من العذاب الي حملته ترجع تحن لحبيبها وتحكي للقطار عنه وعن خوفها الدائم عليه.
بعد ذلك استطاعت تلك الفتاة الهروب والذهاب إلى بغداد، ثم تشاء الأقدار أن تلتقي تلك الفتاة بالشاعر مظفر النواب بالقطار لتحكي له قصتها قبل قرابة عشرين عام، فيقوم ذلك الشاعر المبدع بتحويل تلك القصة الأليمة الى قصيدة مؤثرة، ثم بعد عشر سنين يقوم ياس خضر بغنائها فتتحول من جديد إلى واحدة من روائع التراث الغنائي العراقي الأصيل.

 

 

 

تهيئة الطابعة   العودة الى صفحة تفاصيل المقال