شيخ الموشح والوتر الموسيقار روحي الخماش - سالم حسين الامير
2013-09-14
سالم حسين الامير
شيخ الموشح والوتر الموسيقار روحي الخماش
الموسيقار والشاعر سالم حسين الامير
تعثر قلمي وأزداد ألمي حين بدأت ألملم بعض ذكرياتي وما مر بي من أفراح وأتراح لأكثر من نصف قرن مضى وكأنه سحابة صيف او أي حلم من الأحلام سواء كان أنسجاماً أو الآماً.
كانت أيامنا جميله بشخوصها وزمانها وخيراتها ومعطياتها زمن الأمن والسلام والحب والوئام والألفة الطيبه والصحبة المؤدبة لا كذب فيها ولا رياء ولا حقد كامن ولا عناء ولا أعتداء زمن العمل المثمر والأبداع ذلك زمن العصر الجميل الزاهر والزاخر بأوفى حبيب وخليل .
وبعد رحيل ذلك الزمن تغيرت المودّة والأخاءُ وقل الصدق وأنقطع الرجاءُ ، أخلاءٌ اذا استغنيت عنهم وأعداءٌ إذا نزل البلاءُ.
حمدت الله عز وجل والذي لا يحمد على مكروه سواه وامسكت بقلمي قلم الوفاء والود والآخاء لأتحدث عن زميل ورفيق درب لأكثر من نصف قرن إذ التقيت به في صيف 1948 ورحل عنا في العام 1998 (رحمه الله) ذلك هو الفنان المبدع والنشيط والمخلص في جميع أعماله الموسيقار العربي الكبير روحي الخماش النابلسي (طيب الله ثراه) ، أرجو العذر من أخواني وأبنائي وصحبتي من عدم الأسهاب في مقولتي عن زميل وصديق صدوق وفنان مرح وخلوق نستلهم منه روائع النغم والأبداع والهمم واكرر أعتذاري في عدم أسهابي واستمراري في ذكر أفضاله ومحاسن هذا الفنان الكبير على الموسيقى العربيه عامة والعراقيه خاصه بما أغناها من علمه الثر ومؤلفاته الموسيقيه والحانه الغنائيه وموشحاته الطروبه سواء كان في معهد الفنون الجميله أو معهد الدراسات الموسيقيه أو في دار الأذاعة والتلفزيون أو النشاط المدرسي.
بعد عودتي مع زملائي أعضاء الوفد الفني المبعوث من قبل وزارة الدفاع العراقيه للترفيه عن الجيش العراقي المرابط في الأراضي الفلسطينيه في العام 1948 والمؤلف من أربع فرق ترفيهيه ، فرقة الزبانيه للتمثيل وفرقة مجاهد للتمثيل الريفي ، والفرقه الموسيقيه والغنائيه والفرقه الهندسيه ، ذهبت الى عملي في الأذاعة واذا بشاب وسيم يتحدث باللهجه الفلسطينيه مع الشرطي الحارس في باب الأذاعه العراقيه يحاول الدخول الى الأذاعه فأستوقفني الشرطي بلهجته العراقيه ( عمي ما تحجي ويه هذا الولد يريد يخش الأذاعه) ، وبدوري سألت هذا الشاب من أنت وماذا تريد من الدخول الى الأذاعه فبادرني بكلام وسلام رقيقين وقال " أنا الفنان روحي الخماش من فلسطين " وصافحني وقبلته وصافحته لمعرفتي بهذا الأسم الكريم وأعماله الفنيه من خلال تتبعي لبرامج أذاعتي القدس والشرق الأدنى ، ومطربيها وموسيقيها مثل الأستاذ فريد الأطرش ومحمد غازي وفهد نجار وجميل قشطه ويحيى السعودي والأخوين الرحباني وأسمهان وماري عكاوي ولوردكاش وغيرهم الكثيرين ، فأدخلته فوراً على مدير الأذاعه أنذاك وعرفته على الفنانين الحاضرين حينها وأدخلته على الشيخ العلامة الموسيقي الكبير شيخ علي الدرويش ، ليتني وبمقدوري أن أصف لقائه بأستاذه الشيخ علي الدرويش ولقاء الدرويش به ، كان الشيخ علي الدرويش الحلبي السوري الأصل خزانة الموشحات والأوزان الموسيقيه حيث كان يدرس آلة الناي والموشحات الأندلسيه في معهد الفنون الجميله وقد أسس فرقة الموشحات في الأذاعه العراقيه من بعض المطربات والمطربين في الأذاعه وكان هذا العلامة الكبير في الموسيقى والمدون لجميع الموشحات والأوزان العربيه في الموسيقى والعنصر الكبير والمهم في مؤتمر الموسيقي الأول الذي أنعقد في القاهرة عام 1932 ، قد جاوز الثمانين من العمر وبحاجه الى من يساعده في تحفيض الموشحات الى الفرقه التي كانت تظم من المطربات (نرجس شوقي ، فتاة دمشق وخالده و غيرهم ) ومن المطربين ( ناظم الغزالي ورضا علي ومحمد كريم ويحيى حمدي وجميل سليم ) وانا كمستمع ، وقد سجلت هذه الموشحات على أسطوانات معدنية أذ لم تحصل الأذاعه أنذاك على مسجل بعد أو أي جهاز للتسجيل ، وبعد عودة الشيخ علي الدرويش الى مدينته حلب تولى الفنان روحي الخماش رئاسة الفرقه وتحفيظها الموشحات الأندلسيه القديمة والملحنه حديثاً سواء من ألحانه او من ألحان كبار الوشاحين أمثال الشيخ درويش الحريري أو كامل الخلعي أو عمر البطش أو أبو خليل القباني وغيرهم ، وسميت الفرقه الجديده التي دخلتها عناصر أخرى من الأصوات الجميله بفرقة أبناء دجلة ثم تولى فرقة أخرى سميت فرقة الأنشاد وقد سجلت العديد من الأغاني التراثيه العراقيه والعربيه بعد أن توفرت لدى الأذاعه والتلفاز أجهزة التسجيل والكامرات للتصوير .
ترأس من يومها الفرقه الموسيقيه لدار الأذاعه والعراقيه العربيه وكنت أنا حينها مع فرقة الأستاذ جميل بشير ، والأستاذ منير بشير والأستاذ غانم حداد كانوا ضمن فرقة الأذاعه الكردية العام 1947 ، وفي العام 1950 أنتقلت للعمل في فرقة الأذاعه العربيه مع الأستاذ روحي الخماش .
لم يقتصر عملي مع الأستاذ روحي الخماش على عملي معه في الأذاعه والفرق التي يترأسها ويقودها فحسب ، بل كان لقائي فيه بمعهد الفنون الجميله والحفلات الليليه ، وحتى بعد فراغنا من الدوام الرسمي المسائي في معهد الفنون الجميله أو الأذاعه ، كانت لقاءاتنا مستمرة دون أنقطاع أما في بيوتنا أو سهراتنا سواء كانت عند أصدقائنا من المغنين أو مصاحبين للمطرب ناظم الغزالي بعد ان عملت له فرقه خاصه به ، أو نسهر ليالينا الترفيهيه عن متاعبنا بالجرداغ الذي أقضي فيه ليالي الصيف على شواطئ دجلة الخير وحواشيه بالشاليه على البلاجات ، ولا أريد أن أطيل على القارئ الكريم حيث أسسنا فرقة خماسي الفنون الجميله ، التي أخذت تقدم معزوفات من الأذاعه والتلفزيون بأستمرار والمؤلفه من الأساتذه غانم حداد على آلة الكمان ، روحي الخماش على آلة العود ، سالم حسين على آلة القانون ، حسين قدوري على آلة الجلو ، والحاج حسين عبد الله على الرق وبعد انتقاله الى رحمة الله استعضنا بضابط الإيقاع إبراهيم الخليل ، أتخذت وزارة الثقافه والأعلام هذه الفرقه معتمده في تمثيل الموسيقى العربيه والعراقيه في المهرجانات والأحتفالات داخل العراق وخارجه فكانت إيفاداتنا مستمرة في كل عام ، وأود هنا أن أقف للراحه والأبتسامة الخفيفه بذكر حكايتين طريفتين خلال سفراتنا العديده ، وأتمنى ان يشاركني القارئ الكريم ، ففي أحدى سفراتنا الى الأتحاد السوفيتي آنذاك وكان الفصل صيف وشهر رمضان المبارك وكنا في مدينة موسكو العاصمة والأستاذ روحي الخماش صائم رمضان ، والشمس في هذا الشهر في موسكو وفي البلاد الأوربيه تقريباً لا تغيب إلا في الساعه العاشرة مساءاً والتوقيت بين موسكو وبغداد على خط واحد ، والأستاذ روحي الخماش فاتح أذاعة بغداد وسمع مدفع الأفطار وأذان المغرب وأخذ يسأل .. هل يجوز الأفطار مع بغداد وتوقيتها وتوقيت موسكو واحد ، ولما كنت أنا الآخر الصائم الثاني في الفرقة الخماسية وأخذ الجوع والعطش مني مأخذه ، نصبت نفسي مشرعاً وأذنت بصوت خفيف وأجرّت له ولي في الأفطار ، وكان رئيس الوفد أحد الوزراء فطلبت منه التصديق على هذه الفتوى ، وكانت من الحكايات الطريفه في حينها ، أما الطرفه الثانيه فكانت في القطر الجزائري الشقيق ، كان الأستاذ روحي الخماش ملازماً الفندق ولا يميل الى الخروج والتفسح معنا فأودعنا عنده جوازات سفرنا ومصروفنا اليومي وصادف أن خرج معنا لشراء حذاء له ولما أخذ في فحص الحذاء على قدميه وضع الشنطه التي فيها الجوازات والنقود على أحدى الطاولات ولما أراد أن يدفع ثمن الحذاء لم يجد الحقيبه ، فأضطررنا أن نعطي ثمن الحذاء مما نحمله في جيوبنا وذهبنا في اليوم التالي الى السفارة العراقيه في الجزائر ومنحتنا جواز سفر مؤقت .
لقد دونت سيرة هذا الفنان المبدع والملحن والعازف والخلوق في أكثر من كتاب ، ففي كتابي ( الموسيقى والغناء في بلاد الرافدين ) وكتاب (سيرتي وذكرياتي ) وكتاب ( مبدعون في مسيرتي الفنيه ) كما أني لازمته طيلة مرضه حتى رحيله في اخر يوم من شهر آب من العام 1998 ، رحم الله الأستاذ روحي الخماش وأسكنه فسيح جناته ، وقد رثيته في قصيده في حينها ونشرت في الصحف العراقيه بعنوان ( شيخ الموشح والوتر) وأقول هنا ( ما مات من خلف الآثار ناطقه)
الموسيقار والشاعر الباحث والمؤرخ
سالم حسين الأمير
أيلول 2012 في الذكرى الرابعة عشر لوفاة الموسيقار روحي الخماش |