قصة أغنية "غريبة من بعد عينچ يايمة" - بقلم دكتور مدحت محمود

2020-09-22

فاطمة الظاهر

قصة أغنية "غريبة من بعد عينچ يايمة" - بقلم دكتور مدحت محمود


قصة أغنية "غريبة من بعد عينچ يايمة" كما سمعتها من الفنان عباس جميل
بقلم الدكتور مدحت محمود
كنت مدعوا لحضور احد الأعراس في بغداد بحدود سنة ١٩٩٧ وهناك التقيت صدفة بالفنان الخالد المرحوم عباس جميل الذي كان يحضر العرس كمدعو وليس كمطرب . عرفني عليه احد أصدقائي فنشأت بيننا محبة فورية سيما عندما علم ان والدي رحمه الله كان طبيب بعض أفراد عائلة عباس جميل وهو يحتفظ لوالدي بذكرى طيبة. اما بالنسبة لي فقد أخبرته فورا انني عاشق لآلة العود كما وإني أهيم طربا بألحانه الخالدة . وكما تتفاعل مركبات الكيمياء المتجانسة تحركت أواصر الود والاحترام بيني وبين ذلك الفنان العظيم المتواضع فالتقيته بعض المرات في عيادتي في شارع المغرب وبعدها أخبرته انني أودّ ان اعرفه على جميع أصدقائي المقربين من خلال دعوة عشاء احتفاءً به وبمنزلته الرفيعة حيث ان الفنان عباس جميل قدم للفن الغنائي العراقي وعلى مدى اكثر من خمسين عاما اجمل الألحان للأغاني العراقية التي استوطنت ذاكرة ووجدان كل عراقي أصيل .
وفي نفس دعوة العشاء في منزلي دعوت كذلك صديقي وأستاذي الفاضل الموسيقار سالم عبد الكريم حيث كنت اعلم ان هنالك صداقة ومحبة متبادلة بين الفنانين عباس جميل وسالم عبد الكريم ... والى الان مازلت أتذكر تلك السهرة الرائعة التي سحر فيها الموسيقار سالم عبد الكريم ريشة عوده ليجعل ذلك العود ينطق بأجمل ألحان الشعوب واتحفنا كذلك المتألق دوما عباس جميل ببعض من اجمل أغانيه . ثم طلبت احدى المدعوات من الفنان عباس جميل ان يغني تحفته الخالدة " غريبة من بعد عينچ يا يمة" فابتسم الفنان عباس جميل ابتسامته المعهودة وقال لها " عزيزتي الدكتورة كلما تطلب مني احدى السيدات ان اغني هذه الاغنية في جلسة خاصة وابدأ بالغناء تنهمر الدموع من عيون السيدات فاعذريني عن تلبية هذا الطلب لاني لا اريد ان افسد عليك هذه السهرة" .
ثم حدثني على انفراد حول أصل هذه الاغنية فقال لي بانه في احد الأيام في منتصف الخمسينات زاره احد شعراء الاغنية العراقية (ولم يذكر لي اسمه) وأعطاه نص هذه الاغنية قائلا ان هذه هي بالواقع أغنية وطنية ويشبه فيها الوطن بالأم وكيف ان الانسان الذي يهجر وطنه هو كمن يترك أمه ويصبح غريبا بعيدا عن حنانها . وذكر كذلك ان هذا الشاعر تعمد ان يتناول هذا الموضوع بالتورية خوفا ان تسيء السلطة انذاك فهم الموضوع سياسيا فيحدث مالا يحمد عقباه . واستطرد عباس جميل قائلا انه اعتذر حينها عن تلحينها فورا لان الأغاني الوطنية وكذلك الأغاني التي تتناول موضوع الام لم تكن رائجة تلك الأيام ،، ولكنه وعده ان يلحنها في يوم ما في المستقبل .
وبعد أشهر تدخل القدر فتوفيت على حين غرة والدة المطربة الراحلة زهور حسين التي كانت تكنّ لها حبا جماً ،، فحزنت عليها أشد الحزن ، وبعد انقضاء الأربعين طلبت منه زهور حسين ان يلحن لها اغنيةً تخلد فيها أمها . فتذكر عباس جميل هذا النص الذي قدمه له هذا الشاعر الغنائي الذي علمتُ فيما بعد انه عباس العزاوي فعاد يبحث عنه بين أوراقه القديمة في منزله فعثر عليه في احد الأدراج . ثم أضاف لي عباس جميل ان الهام اللحن هبط عليه فورا حالما أعاد قراءة هذا النص فوضع له الجمل اللحنية فورا . وحالما تأكد ان الاغنية جاهزة فنيا بالفعل قام بالاتصال بزهور حسين وأخبرها بأنه قد عثر على ضالتها المطلوبة . ثم أضاف لي عباس جميل انه لاقى صعوبة شديدة لدى قيامه بتحفيظ زهور حسين تلك الاغنية لان المسكينة زهور كانت تنخرط في بكاء مؤلم بين مقطع وآخر كلما تتذكر أمها الراحلة قبل فترة قصيرة .
ولمن لا يدري دعوني أذكركم قرائي الأعزاء ببعض ألحانه الخالدة التي قدمها الى المطربة الراحلة زهور حسين مبتدأً بأول لحن "أخاف احچي وعلي الناس يگلون" والذي نجح بشكل غير مسبوق ثم أعقبها بألحان اخرى مثل " يم عيون حراگة" و"جيت يهل الهوى" و "تفرحون افرحلكم" ... كما وانه قدم الى المطربة الراحلة سليمة مراد الاغنية الرائعة " يايمة ثاري هواي" والى المطربة الراحلة وحيدة خليل أغنية "چا وين أهلنا" و أغنية "عين بعين عالشاطي تلاگينا" وأغنية "عليمن يا گلب تعتب عليمن"... وقدم كذلك الى المطرب الراحل رائد الأغاني الريفية داخل حسن أغنية " يا طبيب صواب دلالي كلف"... وغنى بنفسه بعض الأغاني من ألحانه مثل "اسمر مغرور" وأغنية "اتوبه من المحبة" .

لنفترض جدلا ان جميع العراقيين يمتلكون موهبة تأليف وتلحين الأغاني ،،، هل تتخيل عزيزي القاريء كم مليون اغنية ستظهر بروعة اغنية غريبة من بعد عينچ يا يمة ... تبكي وطنا رائعا نراه يحتضر امامنا وشرذمة من اللصوص القذرين ممن يحكموه اليوم يكتمون أنفاسه ليعجلوا بموته ويبتسمون بدناءة امام الكاميرات وكأنهم يتهيؤون لدفن راس بصل وليس وطنا جميلا كان يدعى يوما بلاد مابين النهرين ومهد الحضارات .

 

 

تهيئة الطابعة   العودة الى صفحة تفاصيل المقال