أغنية على شواطي دجلة مُرّْ.. تراث عراقي فريد - الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط

2020-09-22

د. باسل يونس ذنون الخياط

 أغنية على شواطي دجلة مُرّْ.. تراث عراقي فريد - الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط


 أغنية على شواطي دجلة مُرّْ.. تراث عراقي فريد

الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
في أجواء الظروف الصعبة التي يشهدها العالم حاليا بسبب تداعيات جائحة كورونا، يجد الناس في شواطئ البحار والأنهار ملاذا آمننا لتلطيف الأجواء النفسية وتعزيزها واستنشاق الهواء الصحي العليل.
وفي بلدنا الغالي الذي أنعم الله تعالى عليه بالآلاء الكثيرة، ومنها الأنهار، يتجه الناس صوب شواطئ الأنهار التي تطل واجهاتها الأمامية على النهر وتحف بواجهاتها الأخرى الخُضر والأزهار، ويمضون فيها حياة هانئة حيث الحرية المطلقة والجو اللطيف.
وفي تلك الأجواء، يبتعد الإنسان عن أجواء الشد النفسي والهموم، ويشعر بالسعادة وهو جالس بين أحبائه وينظر إلى كل ما حوله من مناظر خلابة، وقد ارتدت الطبيعة حلتها الزاهية، فتسمو الروح وتتفتح الآفاق.
التوأمان دجلة والفرات وقصة حبهما الأزلية:
دجلة والفرات توأمان يحكيان قصة حب ووفاء رائعة: ينبعان من جبال طوروس في الأناضول، ثمّ يفترقان ليدخلا الأراضي السورية والعراقيّة ويسقياها الخيرات والبركات. ثم يلتقي الشقيقان من جديد في بلدة القرنة، ويتعانقان بعد رحلة طويلة وتمتزج مياههما سوية ليكوّنا معاً (شط العرب). ويبلغ طول رحلة نهر دجلة الكلية في تركيا وسوريا والعراق 1850.7 كم، في حين يبلغ طول رحلة نهر الفرات الكلية حوالي 3000 كم.
دجلة الخير:
الحديث عن دجلة الخير ذو شجون، هذا الشريان الحيوي والذي مع انسياب مياهه العذبة تنساب الحياة، وعلى شواطئه الجميلة الرائعة تتدفق الأحاسيس والمشاعر والذكريات.
دجلة الخير رمز بغداد الحي المتجدد أبد الدهر، ذكرها الكثير من الشعراء قديما وحديثا، من ذلك قول الجواهري (1899–1997):
حيّيْتُ سفحكِ من بُعد فحييني ... يا دجلة الخير يا أمّ البساتينِ
حيّيْتُ سفحكِ ظمآناً ألوذُ به  ... لوْذَ الحمائم بين الماءِ والطينِ
يا دجلةَ الخير يا نبْعاً أفارقُهُ  ... على الكراهةِ بين الحين والحينِ
إنّي وردْتُ عيون الماءِ صافيةً  ... نبْعاً فنبْعاً، فما كانت لترويني
وأنتَ يا قارباً تلْوي الرياحُ بهِ  ... ليَّ النسائمِ أطرافَ الأفانينِ
يا دجلة الخير: يا أطياف ساحرةٍ ... يا خمر خابيةٍ في ظلّ عُرجونِ
أغنية "على شواطئ دجلة مُرّْ":
قلة من الأنغام عَنتْ بالملامح الطبيعية والبشرية التلقائية لدجلة الخير، ومن بين تلك القِلة ما بدا مخلصا لعبقرية المكان الطبيعي، أي النهر والملامح الإنسانية المتشكلة منه ومن حوله. وأغنية "على شواطي دجلة مُرّْ" هي تمثيل رائع لذلك المعنى الفريد الذي يتدفق طواعية في مشاعره؛ كما تتدفق مويجات النهر في شواطئه.
لقد خُصصت هذه الأغنية التراثية الجميلة لنهر دجلة، وهي تجمع حب بغداد بحب نهر دجلة وبوصف شعبي جميل جمع بين أوقات النهار من الفجر إلى العصر إلى السهرة الليلية. وقد اشتهرت هذه الأغنية في النصف الأول من القرن العشرين، حيث غنتها المغنية الحلبية الأصل زكية جورج (1879-1966) والتي جاءت إلى بغداد سنة 1920م، وهي أول مغنية غنت في إذاعة بغداد بعد تأسيسها عام 1936. كما غنت هذه الأغنية سليمة مراد باشا (1905-1974)، ثم غناها آخرون لاحقا ومنهم أنوار عبد الوهاب.
لقد حملت الأنغام، قديمها وحديثها، تلويحات أشواق وفخر وأوصاف للذكرى متوجهة بما يشبه التحية لبغداد ورمزها الحي المتجدد أبد الدهر: نهر دجلة. وقد صاغ كلمات هذه الأغنية الشاعر والباحث والصحافي عبد الكريم العلاف (1894-1969)، ووضع لحنها صالح الكويتي (1908-1986) على نغم البيات.
لقد صاغ  صالح الكويتي، ضمن نهجه العبقري، لحنا قائما على السهل الممتنع، لجهة بساطة النغم الذي يترسخ في الذاكرة عبر ترديد اللازمة "على شواطي دجلة مُرّْ"، ولكن بنسيج نغمي تصويري يحاكي تدفق النهر. فجاءت المقاطع مطواعة التأثير تندفع بتأثيراتها شيئا فشيئا في روح المتلقي ومشاعره.
في رحاب الأغنية:
تقول كلمات هذه الأغنية:
على شواطي دجلة مُرّْ ... يا منيتي وقت الفجرْ
شوفوا الطبيعة تزهي بديعة ...  ليلة ربيعة يضوي البدرْ
دجلة نهرنا يروي شجرنا  ... ماحلى فجرنا لمّن يطرّْ
لفرش برمله على شاطى دجله ...  والماي ديله هل من حزرْ
أي ليكن وقت الفجر موعداً لمرورك على شواطئ دجلة فهو وقت رومانسي تسود فيه السكينة، وتدعو الحبيب للتأمل في مياه دجلة التي تنساب بهدوء وسكينة وقت الفجر متناغمة مع نسمات الصباح العليلة.
ونحن في هذه الأغنية حيال احتفال انساني بالطبيعة وجغرافية المكان، وقد عبّر عنه الشاعر العلاف بروح أخّاذة تجمع التصوير والتلقائية الشديدة: (شوف الطبيعـة: تزهـي بديعة، إبليلة ربيعة.. يضوي البدر). فتنبه الأغنية إلى الطبيعة وزهوها وجمالها، وتتفاعل تلك الطبيعة الزاهية مع ليلة ربيعية الأجواء حيث يكون الجو جميلا والبدر مضيئاً.
ثم تُذكَّر الأغنية بأن النهر يروي النباتات والأشجار، وتعجب بحلاوة الفجر عندما يبزغ ويظهر (دجلة نهرنه يروي شجرنه محلى فجرنه لمن يطر).
وتؤكد الكلمات على غلاء دجلة وسمو مكانته وأنه زها بسحره لها مضافاً إليه صفاء الحبيب وقت العصر؛ وكأنها تريد أن تقول أن نهاية هذا اليوم الذي بدأ بهذا الفجر انتهى عصرا بحبيب صاف لها:
يا دجلة الغالي بسحره زهالي ... وحبي صفالي وكت العصر
وحيث انتهى العصر بدأ الليل بقمره الكامل حتى أن نور القمر أنار الماء وانكسر نوره على الماء فبدأت جلسة مملوءة هناء واستمرت حتى مطلع الفجر التالي:
ليلة گمريه على المي ضويه وگعده هنيه حتى الفجر
وهنا تقول إن سهرتها أحلى السهرات كانت بسبب المكان، وهو شاطئ دجلة، وهي تحذر تارك هذا المكان من الطين الموجود بالماء وهو من نوع (الدهله)؛ أي يمتد الطين بعيدا في ساحل النهر إلى أعماق غير قليلة مما يعيق حركة من يريد الخروج من الماء الى ساحل النهر أو العكس:
يا محلى السهره على شاطي دجله والماي دهله يا المنحدر
ثم تشير إلى ما يعمله من يأتي إلى شاطئ النهر حيث يعمل أكواما من طين الساحل ويفرشها وتؤكد مرة أخرى على ( الدهله) وهو الطين العميق الذي ( يطمس) به من ينزل إلى النهر أو يخرج منه لأن مستوى الماء غير حقيقي إذ لابد من ملاحظة هذا الطين لأنه قد يغرق من يظن ان عمق الماء قليل في حين أنه أكثر من ذلك بسبب الطين العميق( الدهله).
نفرش الرمله على شاطي دجله والگيش دهله يالمنحدر
 

 

 

تهيئة الطابعة   العودة الى صفحة تفاصيل المقال