محطات حياة الملا عثمان الموصلي - بقلم الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط

2020-10-03

د. باسل يونس ذنون الخياط

محطات حياة الملا عثمان الموصلي - بقلم الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط


 

محطات حياة الملا عثمان الموصلي
الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
أستاذ متمرس/ جامعة الموصل
لقد كانت حياة الرائد الضرير الملا عثمان الموصلي (1854-1923م) حافلة بالحركة والأحداث، وتنقَّلت محطات حياته بين العديد من البلدان: العراق وتركيا وليبيا ومصر وبلاد الشام والحجاز، وفي هذه المقالة نستعرض كل من هذه المحطات على مدى ستة عقود.
 
لقد كان مولده في محلة (باب العراق) في الموصل لأسرة فقيرة، فقد والده وهو في السابعة من عمره، ثم فقد بصره بعد إصابته بوباء الجدري. أخذه (محمود أفندي العمري) ورعاه، ثم زوجه في مقبل حياته فرُزق بولديه أحمد وفتحي.
أرسله الشيخ (عبد الله رفعت العمري) الذي كان يشغل موقع مدير بلدية الموصل إلى تركيا للدراسة عند أحد معارفه هناك والمدعو (أنور متولي) الذي علّمه أصول القراءات والمقامات، ثم عاد إلى الموصل.
توجه عثمان بعد وفاة (محمود أفندي العمري) إلى بغداد لينضم إلى ابنه (احمد عزت باشا العمري) الذي فُتح له أبواب المجتمع البغدادي الذي تلقفه إعجاباً بصوته وحباً بفنه وإنشاده الرائع للقصة الشريفة والمقامات العراقية، وصار الملا عثمان المنشد الأول في الحضرة الكيلانية.
تعكر صفو حياة الموصلي في بغداد مع والي بغداد (تقي الدين باشا) على أثر خطاب ألقاه الملا عثمان في جموع الناس المحتشدة غمز فيه بالخلافة العثمانية وتجاهل السلطان العثماني ولم يتوجه بالدعاء له، فتم نفيه إلى سيواس شرقي الأناضول عام 1886م والتي بقى فيها مدة وجيزة، حيث تَشَفَّع له وجهاء بغداد.
زار الموصلي بلاد الحجاز وأدى فريضة الحج ثم قفل راجعا إلى الموصل بعد غياب عشرين سنة، ولازم الشيخ محمد جرجيس الموصلي الشهير بالنوري وأخذ عنه الطريقة القادرية.
لقد كانت طموحات الملا عثمان كبيرة، فجذبته أضواء العاصمة إسطنبول، فاستأذن شيخه النوري لينتقل إلى محطته التالية إسطنبول في أوائل العقد الأخير من القرن التاسع عشر.
وفي إسطنبول استطاع الموصلي بفطنته وذكائه أن يُسمع صوته للسلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918)، فأُعجب به السلطان وقربه إليه. فتهيئت له الظروف وسطع نجمه وانجذبت نحوه أفئدة السلطان وكبار القُراء والفنانين الأتراك، وأضحى الملا عثمان القارئ الأول في جامع أيا صوفيا الشهير.
وفي إسطنبول تعرف عليه أشهر الموسيقيين الأتراك ورأوا عنده معلومات وأصوات تختلف عما عُهد في الموسيقى التركية، فقد مزج المقام العراقي مع الموسيقى التركية، بالأخص مقام المنصوري الموصلي في أسلوب خاص. وكان الملا عثمان يجتمع في مقهى مشهور في إسطنبول يسمى مقهى (فوزية قراءت خانتي) بمنطقة شهرزاد، ويشترك مع فرقة من الموسيقيين الأتراك المشهورين كعازف القانون شمسي بيك وعازف الكمان علي بيك.
لقد كانت المحطة الأكثر أهمية في حياة الملا عثمان تعرُّفه بالشيخ الصوفي الحلبي أبو الهدى الصيادي (1849-1909م) الذي كان يحظى بمنزلة الكبيرة عند السلطان، فقد أحب الصيادي ألحان الملا عثمان وقرَّبه إليه. وفي إحدى الجلسات جادت قريحة الصيادي ببيتين من الشعر، فبادر الملا عثمان على البداهة فلحنهما وغناهما على نغم الحجاز كار، فطرب الصيادي وبكى من روعة اللحن وجمال الأداء.
وانعكست علاقة الملا عثمان بالصيادي إلى رفع منزلته عند السلطان، فسمح له أن يغني لحريم السلطان، كما اتخذه السلطان مبعوثا شخصيا له يُرسله في مُهمات خاصة لأغراض سياسية. فقد طلب السلطان عبد الحميد الثاني من ملك ليبيا محمد المهدي السنوسي (1844-1902) إرسال قوة من رجاله من الأقطار البرقاوية الطرابلسية لمساعدة الدولة العثمانية في حربها ضد روسيا عام 1877، إلا أنَّ السنوسي امتنع عن تنفيذ الطلب، مما جعل السلطان يرسل الملا عثمان لمعرفة المقاصد السياسية للسنوسي، فأكرمه السنوسي أجل إكرام ونجح الملا عثمان في مهمته.
وبعد إكمال الموصلي مهمته في ليبيا سافر إلى القاهرة بعد أن استأذن السلطان، فوجدها تعج بالأدباء والموسيقيين، فبقي فيها خمس سنين. وأعجب شيخ قُراء مصر (يوسف العجوز) بطريقة تلاوة الموصلي للقرآن الكريم، كما تتلمذ على يده شيخ قراء مصر محمد رفعت. وذكر الموسيقار زكريا أحمد أن أستاذه الشيخ علي محمود أخذ الموشحات التركية من الملا عثمان.
والتقى الموصلي عام 1895 في القاهرة بكلٌّ من الموسيقيين عبده الحامولي ومحمد كامل الخلعي ودرسوا على يديه فنون الموشحات، وأدخل إلى مصر نغمات الحجاز كار والنهاوند وفروعهما.
وانضوى الموصلي تحت عباءة المولوية التي أجازت الجمع بين التصوف والموسيقى، وحرص على حضور جلسات الذكر الأسبوعية لأتباع المولوية والمقامة في حي السيوفية الذين أعجبوا بمواهبه، فأصبح الموصلي قطبا من أقطابها وأخذ يرتدي بزتها حتى آخر حياته.
وقام الموصلي بإقامة جلسات لتدريس الألحان والموشحات في القاهرة، كما عمل في الصحافة وقام بإصدار مجلة (المعارف). كما طبع كتاب (سعادة الدارين) وهو مجموعة قصائد جميلة، وكتاب (الأبكار الحسان في مدح سيد الأكوان) والذي احتوى على قصائد مُخمَّسة.
ثم طلبه السلطان في إسطنبول، واختاره ليكون سفيرا له في الشام والحجاز للعمل على التفاف الجماهير حول الخلافة العثمانية، فاستقل باخرة متوجهة إلى بيروت سنة 1906، وأقام فيها ثلاثة أشهر. وأثناء مكوثه في بيروت قام بتخميس قصيدة عبد الباقي العمري الموسومة (الباقيات الصالحات) وأسماها (التخميس العبقري على بائية عبد الباقي العمري)، كما خمّس قصيدة البوصيري الشهيرة (جاء المسيح من الإله رسولا)، وسماها (الهدية الحميدية الشامية على القصيدة اللامية في مدح خير البرية) ومطلعها:
سجعتْ بلابل صحفه وترنحتْ ... سكرى عن أوصاف طه أفصحتْ
ظلمات نكر الخصم مهما لوَّحتْ ... فالأرض من تحميدِ أحمد أصبحتْ
وبنوره عرضاً تضيء طولاً
 
وفي العام 1909 تتلمذ سيد درويش (1892-1923) على يد الموصلي في الشام وكان عمره سبعة عشر عاما، وكان ضمن فرقة عطا الله الغنائية المصرية، وقد مكث في الشام عشرة أشهر. وفي العام 1912 قامت فرقة عطا الله برحلتها الثانية إلى الشام، ومكث سيد درويش مع أستاذه الموصلي قرابة السنتين وأخذ منه أصول الموشحات التركية والشامية والعربية. وقد ذكر الكاتب المصري محمد علي حماد أن تلك الرحلة كانت حجر الأساس في بناء شخصية سيد درويش الفنية واستفاد كثير من أستاذه. وتؤكد العديد من المصادر الموثوقة أن عددا من أشهر أغاني سيد درويش قد اقتبسها من أستاذه الموصلي، مثل (زوروني كل سنة مرة) و (طلعت يا محلى نورها شمس الشموسة).
 
ونزولاً عند رغبة عدد من وجهاء العراق وأعيانها الذين جاؤوا إلى إسطنبول لحضور اجتماعات (مجلس المبعوثين) منهم عميد أسرة الآلوسي، والشيخ يوسف السويدي، والشيخ إبراهيم الراوي (رئيس الطريقة القادرية) وغيرهم؛ عاد الملا عثمان إلى الموصل، ثم استقر في بغداد.
لقد عاد الملا عثمان إلى الموصل سنة 1913 ليرأس التكية المولوية في مسجد الشيخ شمس الدين في محلة (باب الجديد). وأقام عند صديقه الحاج إبراهيم دلال باشي الذي أفرد له دارا خاصة به وبقي مقيما فيها لمدة سنة. و في سنة 1914 إبان الحرب العالمية الأولى توفي الحاج إبراهيم، وبعد اسبوعين حزم الملا أمتعته متوجها إلى بغداد بالكلك.
وصل الكلك إلى تكريت أولا، وتوجه الملا عثمان إلى تكية الالوسي حيث استقبله الشيخ علاء الدين الالوسي الذي كان عضوا في مجلس المبعوثان العثماني فأكرم ضيافته، وارتجل الموصلي قصيدة مطلعها:
ذقتُ الصفا بحمى علاء الدين ... فرع الشريعة بضعة الميمون
وصل الكلك بغداد ونزل الموصلي في دار ابنه الثاني فتحي، فتسارع عليه القوم لزيارته ويتبارون في تكريمه. وبقي الملا عثمان يقيم في دار ولده فتحي في منطقة باب الشيخ (فضوة عرب) ولا تزال هذه المحلة تسمى (محلة الحاج فتحي)، وبالوقت نفسه كانت له غرفة يستريح فيها بعد الصلاة في جامع الخفافين، وفيها جاءه عدد من رجال الدين وابلغوه بقرار تنصيبه شيخا لقُراء بغداد، واخبروه بأن يحضر إلى جامع (نائله خاتون) (جامع المرادية حاليا) مقابل وزارة الدفاع الحالية بين باب المعظم والميدان.
وخلال حفلة أقامها الملا عثمان بذكرى المولد النبوي الشريف في دار العلامة الأستاذ عبد الوهاب النائب في محلة الفضل تعرَّف الملا على مطرب العراق الأول المرحوم محمد القبانچي (1904-1989) وكان وقتها شابا خجولا في أول الطريق نحو الغناء. وبعد أن أنشد الموصلي طلب من القبانچي المشاركة بما يحفظ من المقامات، وكان حاضرا بصفة مستمع مع ابن عمه عبد الرحمن شرف، فأعجب به الملا عثمان واجرى معه حوارا مطولا وختمه بجملة مفيدة (اذهب يا محمد.. امسك بالطريق فهي واسعة).
مضت على الملا عثمان أربع سنوات في بغداد، وكان صديقا ودودا لأهل بغداد وله من بينهم أصدقاء كثرة من أعيان المدينة كالشيخ العلامة عبد الوهاب النائب (1852-1926)، وكان الملا عثمان يحضر مجلسه ويقيم الموالد في داره، وقد عرف عنه حبه للموسيقى والألحان وإلمامه بها.
وكان الموصلي يلتقي بأستاذه علامة العراق السيد محمود شكري الالوسي (1856-1924) الذي درس عليه علوم العربية قبل سفره إلى استانبول، وكان يحضر مجلسه وقد عزاه بوفاة اخيه حسني الالوسي مؤرخا وفاته شعرا:
أيها الحبر اصطبر عن فقده ... فأخوك اليوم بالخير العميم
إذا لبست الصبر عن فقدانه ... فزت بالإحسان والأجر العظيم
كما كان الموصلي يلتقي بالسيد ابراهيم الراوي وبالقاضي محمد نافع المصرف عضو مجلس التمييز وقاضي بغداد والشيخ قاسم القيسي والشيخ نجم الدين الواعظ مفتي العراق.
أما في مجال الصحافة فقد كانت علاقته وثيقة بالصحفيين والشعراء، ومنهم عبد اللطيف ثنيان أحد الصحفيين القدامى في العراق الذي نشر مقالا عن الموصلي في مجلة (لغة العرب) عام 1926 ذكر فيه معلومات قيّمة وطرائف نادرة عن الموصلي. كما نشر الشاعر محمد الهاشمي مقالا في مجلة (اليقين) عام 1923 ذكر فيه أوجه نبوغ الموصلي وعبقريته.
وفي يوم الثلاثاء30 كانون الثاني 1923 توفي الملا عثمان الموصلي عن عمر يناهز التاسعة والستون ودفن في مقبرة الغزالية بعد أن قضى حياة حافة وترك آثار نفيسة تناقلتها الأجيال جيلا بعد جيل.
لقد رثاه صديقه الشاعر والصحفي عبد الرحمن بن بطّي البنّاء (1882-1955)  بقصيده في قصيدة مطلعها:
رحلتَ والصدر بالإيمانِ ملآنُ ... في ذمة الله شيخ العلم عثمانُ
على المنابر تدعو أمة "عجزت" ... عن شرح قصتها شيب وشبانُ
كأنما القوم قد ماتت عواطفهم ... حيث المنابر عند القوم عيدانُ
 
كما رثاه الشاعر معد الجبوري (1943-2017) سنة 2014 بقصيدة طويلة عنوانها "برج الأنغام"، ومما قاله فيها:
كان بصيراً
يتوكَّأ فوقَ عصاهُ،
عليهِ توكّأَ مَن ملؤوا الشرقَ،
مقاماتٍ،
وتواشيحَ،
وتنزيلاتٍ،
واغترفوا مِن منهلِهِ،
ما ابتكروا من ألحانْ
 
هدية المقالة:
من تنزيلات الملا عثمان (أنظر إلي وأعطف عليَّ)، وهي من مقام النوى، يؤديها المنشد يونس الكني بمصاحبة المرحوم الملا عزيز الخياط والفنان رامز الراوي.
أنظر إليَّ وأعطف عليَّ ... إن لم تُسعفني أكن شقيا
ألفتُ خدّك وصنتُ عهدك ... حسبتُ خدّك ورداً نديا
فموسى أسعد وعيسى أمجد ... وأنتَ أحمد خيرُ البرية
أيا رفاقي متى التلاقي ... أرضُ العراقِ عزت عليَّ
 

تهيئة الطابعة   العودة الى صفحة تفاصيل المقال