تأملات موسيقية مع أستاذي روحي الخماش

2013-09-14

سالم عبد الكريم

تأملات موسيقية مع أستاذي روحي الخماش


تأملات موسيقية مع أستاذي روحي الخماش
في طفولتي وبالذات في أيام شهر رمضان المبارك، كان إبتهال ' ياإله الكون إنا لك صمنا ' هو ماتُذيعه الإذاعة العراقية في وقت الإفطار في كل يوم من أيام الشهر الفضيل حتى أصبح ذلك الإبتهال مُلازِما ً للشهر وقد كان من ألحان الأستاذ روحي الخماش
وهو أول لحن أستمع إليه قبل أن أراه أو أعرف حتى إنه من ألحانه وكنت أشاهده أحيانا ً من على شاشة تلفزيون بغداد وهو يُرافق قارئ المقام العراقي الأستاذ ( محمد الگبنچي ) وكذلك وهو يقود ( فرقة الموشحات العراقية) ألتي أسسها في بغداد وكان أحيانا ً يؤدي بعض الأدوار الصوتية المنفردة الصعبة بصوته الرخيم الجميل .
إلا إن التعرف الحقيقي عليه كان عندما تقدمت للقبول في معهد الدراسات النغمية العراقي حيث كان أحد أعضاء لجنة القبول وعندما نجحت في إجتياز إختبارات القبول كطالب في الصف الأول حيث كان يدرسنا النظريات والصولفيج الشرقي ولازلت أذكر الدرس الأول ودخوله علينا بل وأذكر حتى أول جملة قالها لنا وكانت ' وأخيرا ً إلتقينا ' حيث كنا قد مررنا بعدة إختبارات لكي يتم قبول (22) طالب من بين أكثر من (1000) متقدم للدراسة. وفي قسم العود ألذي إنتسبت إليه كان الأستاذ روحي هو المُدرس الرئيسي أو رئيس القسم بمعنى أصح وكنت من ضمن ثلاثة طلبة فقط قُبِلوا في صف العود (الطالبين الآخرين هما الزملاء صفوت محمد علي وعبد الحسين السماوي ). وكنت أرى الأستاذ روحي الخماش يوميا ً في المعهد منذ لحظة وصوله حاملا ً حقيبة سوداء كبيرة قادما ً من دار الإذاعة العراقية حيث كان يُدرب فرقة الموشحات وكنا نستقبله بموده واحترام ونجلس في الباحة الرئيسية للمعهد بانتظار بدء الدوام حيث كان أحيانا يعزف لنا أو يغني لنا بعضا ً من ألحانه أو من أغاني الأستاذ (محمد عبد الوهاب) ألذي كان يعشقه جدا ً وكان درس النظريات الشرقي من أمتع الدروس معه حيث كان يُسمعنا في الدقائق الأخيرة من كل درس نماذج تطبقية من ألحان الأستاذ محمد عبد الوهاب ألذي كان متعلقا ً به جدا ً كما أسلفت. ومنذ الدرس الأول في العود ألذي أخذته منه والأستاذ روحي يكتب لي بخطه الجميل كل المفردات والملاحظات والنوطات وأذكر أنه كان أحيانا ً ما ينفذ حبر القلم ألذي يكتب به ومن إخلاصه كان يبلل رأس القلم بلسانه لكي يكمل الكتابة. وأذكر أنه هو من حبب لي الأنغام والمقامات ألتي تحتوي على ربع الدرجة الصوتي.
ومن الذكريات الغاليه على نفسي أنني كنت أقارن مستواي البدائي بمستوى باقي طلاب قسم العود ممن كان يعزف على العود من سنين قبل إنتسابه للمعهد وكنت ألاحظ أنني لازلت في مرحلة إستخراج الدرجات الصوتية من الأوتار بينما هم يعزفون بتمكن واقتدار وعليه ظننت أن لاقابلية لي في الموسيقى ( بالإضافة إلى الأرهاق والتعب الشديد ألذي كنت أحسه يوميا ً من طول الدوام كوني كنت طالبا ً صباحا ً في كلية العلوم- قسم الرياضيات في جامعة بغداد ومساءً أأتي إلى المعهد مباشرة من الكلية حيث كان يوم عملي يبدأ من الساعة السادسة صباحا ً حتى مابعد العاشرة مساءً) وفي يوم قررت بيني وبين نفسي أن أترك دراسة الموسيقى وعليه ذهبت إلى صف الأستاذ روحي وأخبرته أنني جئت للسلام عليه لأنني قررت ترك الدراسة، ولما سألني لماذا؟ قلت له أنني لا أجد في نفسي الكفاءة، ولما سألني مرة ً أخرى ، كيف؟ قلت له أنني أقارن نفسي بزملائي الآخرين ممن يجيدون العزف ولا أعتقد أنني سأتمكن يوما ً ما من العزف مثلهم، فابتسم وقال لي جملة غيرت مجرى حياتي، قال لي: إنهم يكررون ماتعلموه طوال سنين ولا يتقدمون بينما أنت تضيف كل يوم وبعد ستة أشهر من الآن ستكون أفضل منهم ! لم أصدق ما أسمعه ولكن ثقتي بالأستاذ روحي الخماش جعلتي أستمر في الدراسة وبالفعل بعد ستة أشهر بدأ الجميع يتحدث عني وعن مستواي. ومن أساليبه التربوية والتعليمية إنه كان في كل درس عملي عود لي يذهب ويحضر أحد الأساتذة ويطلب مني أن أعزف درسي أمامه وأذكر أنه في أحد المرات لم يجد سوى كاتب الطابعة في المعهد فجلبه وطلب مني أن أسمعه درسي ! وقد أفادتني طريقته تلك أيما إفاده إذ جعلتني لاأخشى العزف أمام الآخرين وبالتالي هيأتني لاحقا ً للأداء أمام آلاف الحضور. وبعد فترة من دراسة العود معه في الصف الأول أخذ يشجعنا أنا ومجموعة من طلبته لمصاحبته في تقديم عزف منفرد للعود أمام طلبة المعهد في المناسبات الجماعية وأذكر أن أول القطع ألتي شاركناه بها كانت (بشرف صبا) ولاحقا ً وكنت لا أزال في الصف الأول شجعني أن أظهر معه لتقديم عزف منفرد في الحفل السنوي للمعهد وأذكر أننا عزفنا (الأستاذ روحي وأنا) لونگة رياض من مؤلفات الأستاذ رياض السنباطي (كان يترك لي المجال لكي أأدي الجزء المنفرد الشهير منها) ولونگة حجاز كار كرد للأستاذ سبوخ وكانت تلك المناسبة هي أول مواجهة حقيقية لي كعازف منفرد أمام الجمهور.
وفي النظريات الموسيقية كان الأستاذ روحي الخماش مَرجِعا ً يَرجع إليه كل أساتذة المعهد وكان متمكنا ً جدا ً من نظريات الموسيقى العربية وفروعها ويحفظ عشرات المؤلفات عن ظهر قلب ويستطيع تدوينها متى شاء ويتمتع بإذن موسيقية خارقة للعادة ويستطيع تدوين مايسمعه فورا ً دون الحاجة لأي آلة موسيقية. ولاحقا ً أسس في المعهد فرقة للموسيقى ودعاني للإنظمام إليها حيث كنت أصغر عضو فيها وكانت تمارين الفرقة تبدأ بعد نهاية الدوام اليومي مساءً وفي هذه الفرقة تعرفت أكثر على المؤلفات الغنائية الرائعة للأستاذ روحي من أمثال ( موشح ياهلالا ً وارى البِعاد سَناه) وموشح (حبيبي عاد لي) وموشح (أجفـوة ٌ أم دلالُ) وإبتهال (ألله حي) وغيرها من الموشحات والإبتهالات وكذلك تعرفت على طريقة تدوين الأغاني العراقية الفلكلورية ألتي كان يدونها جميعا ً بخطه الجميل ويوزعها علينا للتدريب وكان يصاحبنا في العزف ولم أرى أو أتعرف على مدرس يملك إخلاصه وتفانيه وصبره في التدريس والمتابعة ونكران الذات. وفي السنة الثانية من دراستي على ما أذكر كتب لي من مؤلفاته الجميلة جدا ً (سماعي نهاوند) وهو أول مؤلفاته في صيغة السماعي وكذلك كتب لي في كراستي أيضا ً من مؤلفاته موسيقى (أفراح الشباب) وهاتين المؤلفتين قمنا هو وأنا بتقديمها معا ً عشرات المرات أمام المشاهدين في المناسبات المختلفة ألتي كان يُقيمها المعهد كما كتب لي في كراستي عدة مؤلفات كان قد سجلها سابقا ً مع فرقة الإذاعة الموسيقية وكانت تـُـبث من دار الإذاعة العراقية.
وفي أحد الأيام وأثناء أحد دروس العملي عود طلبتُ منه أن يؤلف سماعي جديد وأقترحت عليه نغم الحجاز كاركرد وبالفعل وفي زمن حصة واحدة كان قد ألف الخانة الأولى (المقطع الأول) والتسليم والخانة الثانية وقد دونهم في كراستي الشخصية ومن ثم وقبل نهاية الدوام أكمل الخانة الثالثة والرابعة وأجرى بعض التعديلات على احدى الخانات ومن ثم إهدى لي هذا السماعي وكتب لي الأهداء بإسلوب وكلمات مؤثرة وكل ذلك موجود لحد الآن في كراستي ، وبالطبع أضفنا سماعي حجاز كاركرد من مؤلفاته إلى المواد ألتي كنا نقدمها سوية هو وأنا أمام الجمهور في مناسبات عديدة. وكان آخر ماألفه من سماعيات وأنا لازلت طالبا ً أدرس على يديه سماعي عجم ولازلت أحتفظ بمدوناته الأولى بخط يده في كراستي وقد قدمنا سماعياته الثلاث ( النهاوند والحجازكاركرد والعجم ) في عدة مناسبات أمام الجمهور وكان يرافقنا أحيانا ً في العزف زميلي في الدراسة صفوت محمد علي . وأتذكر سعي وجهد الأستاذ روحي الخماش في تدوين نماذج عديدة من التراث الموسيقي والغنائي العراقي وشاهدته في مرات عديدة يكتب (دون الإستعانه بالعود) مقدمات أو قطع من المقام العراقي كما إنه قام بتدوين العديد من الأطوار الريفية لكتاب الأستاذ ( ثامر العامري ) عن التراث الموسيقي العراقي حيث كان يستمع إلى الإرتجالات الغنائية المسجلة على إسطوانات قديمه ويدونها رأسا ً بطريقة عجيبة . وبعد الصف الرابع من دراستي بدأ الأستاذ روحي يكتب لي إرتجالا ً قطع تقنية صعبة للعود وهي موجودة أيضا ً ضمن كراساتي أثناء الدراسة وأتمنى أن يتاح لي الوقت والضروف لكي أصدرها في كتاب منفصل لأهميتها وتكريما ً لذكرى الأستاذ روحي وعرفانا ً له.
ومن ذكرياتي معه قيامه بتدوين العديد من التسجيلات بصورة آنية ودون الحاجة كما أسلفت لآلة العود وكان آخر مادونه لي بناءً على طلبي المقدمة الموسيقية لأغنية ( بفكر في اللي ناسيني ) للأستاذ محمد عبد الوهاب ولم يستغرق منه الأمر سوى دقائق. وعندما أصبحت عميدا ً لمعهد الدراسات النغمية العراقي أردت أن أخفف عنه الجهود ألتي كان يبذلها في التدريس فرجوته أن يجلس في غرفته وأن يكتفي بدور الإستشاره والتأليف ولكنه رفض وقال لي أن راحته هي مع الطلبه وأصر أن يواصل التدريس وبالذات مع طلبة الصف الأول لأنه كان يريد بناء أساس تربوي وتعليمي متين. ونظمنا له حفل تكريمي وتكلمت فيه أمام الجمهور عنه وعزفت منفردا ًبحضوره سماعي حجاز كاركرد على ماأذكر وكان يعتبرني دائما ً إبنه ويعاملني دائما ً بكل موده واحترام ويحثني على السعي والمواصلة والتطور. وقبل مغادرتي للعراق أصيب الأستاذ روحي الخماش بوعكة صحية دخل على أثرها إلى المستشفى وزرته أنا والأستاذ علي الإمام والأستاذ باسم حسين على ماأذكر في مستشفى التمريض الخاص في مدينة الطب في بغداد وقضينا وقتا ً معه وكان حديثه كالمعتاد عن الموسيقى والتأليف وقبل أن أتركه قـَـبــّـلته وسلمت عليه ولم أكن أعرف أن ذلك سيكون آخر لقاء لنا. ومها تحدثت فلن أستطيع أن أفي أستاذي وأبي الروحي الأستاذ روحي الخماش حقه وفضله علي وعلى الفن الموسيقي العراقي عامة ً ( أود أن أشير هنا إلى كتاب الأستاذ حبيب ظاهر العباس وهو كتاب جميل عن الأستاذ روحي الخماش وأشكره عليه) وقد تعلمت على يدي الأستاذ روحي أشياء لاأستطيع عدها أو حصرها ولازلت أذكر وصيته لي التي أرجو من الله أن يمكنني من تنفيذها وهي أن أوزع للأوركسترا بعض من مؤلفاته وبالذات سماعياته. إستاذي وأبي الروحي روحي الخماش.. لقد غادرت دنيانا وأنا أذكرك بكل الخير والمحبة والإمتنان والإحترام والتقدير وأدعو لك بظهر الغيب وأسأل الله تعالى أن يجزيك أفضل الجزاء وأن يغفر لك ويسكنك فسيح جناته..اللهم آمين.

تهيئة الطابعة   العودة الى صفحة تفاصيل المقال