نموذج لإبداعات الملا عثمان الموصلي في فن المُوشِّحات
2021-04-12
د. باسل يونس ذنون الخياط
نموذج لإبداعات الملا عثمان الموصلي في فن المُوشِّحات
الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط
المُوشِّح، وجمعه مُوشِّحات أو تواشيح، هو فن شِّعري لا يتقيد فيه الناظم بقافية واحدة، وقد سمِّي كذلك لأنه يشبه الوِشاح بأشكاله وتطاريزه، وهو من ابتكار الأندلسيِّين.
وتكون المُوشِّحات عادةً بسيطة التركيب قليلة التعقيد، تتخذ مجالها من الموضوعات الغنائية كالطبيعة والغزل، وتكتب كلها باللغة العربية الفصحى.
لقد تطورت المُوشِّحات تطورات عديدة بعد فترة من نشأتها، ثم ظهر فرع عنها، وهو ما يسمى بالزجل، حتى أصبح هذا الاتجاه الشعبي ممثلا في لونين: لون المُوشِّحات وتُكتب باللغة الفصحى، ولون الأزجال وتُكتب باللغة العامية.
لقد انتقل هذان اللونان من الأندلس إلى المشرق، وعرفهما كذلك الأدب الأوروبي، فتأثر بهما شِّعراء جنوب فرنسا وكثيرون من الشِّعراء الإسبان الغنائيين. ثم انتقل التأثير إلى الشِّعر الإيطالي ممثلا في عدة أنواع، مثل النوع الديني المسمى (لاودس) والنوع الغنائي المسمى (بالآتا).
من أوائل المُوشِّحات الأندلسية مُوشِّح (أيها الساقي إليك المشتكى قد دعونا وإن لم تسمعِ) لابن زهر الحفيد الاشبيلي، ومن الموشحات الشهيرة مُوشِّح ( لسان الدين بن الخطيب ) الذي يقول في مطلعه:
جادك الغيث إذا الغيث همى ... يــا زمــانِ الـوصل بالأندلـسِ
لــم يـكـن وصلك إلا حـلـمــا ... في الكرى أو خلسة المختلسِ
الملا عثمان الموصلي وفن المُوشِّحات:
إن طبيعة الحياة التي عاشها الملا عثمان متنقلا بين العراق واستانبول وليبيا ومصر ولبنان وسوريا جعلت منه أشبه بالسبيكة الفنية التي انصهرت فيها فنون تلك البلدان وثقافاتها فتأثر بها وأثَّر فيها.
لقد مزج عثمان الموصلي بين الموسيقى العربية والتركية بإدخاله المقامات العراقية بالغناء التركي، فكان يقرأ مقام البياتي والعشاق التركي على أسلوب مقام المنصوري الموصلي. وقد لحّن كثيراً من الأغاني وسجلها على اسطوانات. وقد بقيت أربع اسطوانات في حالة جيدة. الأولى من مقام الراست والثانية من مقام المنصوري والثالثة من مقام الشهري ويغني فيها أغنية من نظمه وتلحينه مطلعها (للعاشق في الهوى دلائل) والرابعة من مقام السيكاه، يعقبها بقوله: (يا أهل الحدباء، يا أغاتي يا عيوني، هذا القوان اسمعوه بعد موتي، وأنا الملا عثمان والسلام عليكم).
ونقل الملا عثمان إلى المقامات العراقية عن الموسيقى التركية مقام الديوان، ونقل عن موسيقى الجيش التركي نغمة تسمى (سيد هواسي) من مقام الرست ونظم عليها التنزيلة المشهورة (يا آل طه فيكم قد هام المضنى يرجوكم). ورفع من شأن الموسيقى في العراق وأدخل التجديد في أساليبها.
وفي مصر أخذ عبده الحمولي عن عثمان الموصلي المُوشِّحات ومزجها بالأدوار المصرية.
موشح "يا غصن نقا":
موشح "يا غصن نقا" كلامه في الأصل مُوشِّح أندلسي قديم صاغ كلماته الشاعر والطبيب (أبو بكر) محمد بن عبد الملك (الحفيد) (1113-1199م)، وهو مـن نوابغ الطب والأدب في الأندلس. أما اللحن فقد صاغه الملا عثمان الموصلي لتنزيلته الدينية "الله برى الأكوانُ للمختارِ" وعلى إيقاع الجورجينا العراقي 10/16 .. فهو في الآصل توشيح ديني في مقام السيكا وعلى إيقاع الجورجينا العراقي ، وقد أنشده المقرئ عبد الستار الطيار:
كما هو معلوم فأن الملا عثمان الموصلي لم يضع موشحات عاطفية وانما جميع موشحاته كانت دينية وأغلبها تصاغ على إيقاع الجورجينا العراقي 10/16 وهو إيقاع مركب وعراقيٌ بأمتياز ولا يستخدم في الموسيقى العربية سوى في العراق ، لذا نرى أن العراقيين ينشدون هذا الموشح على أصوله التي وضعها الملا عثمان الموصلي في مقام السيكا وعلى إيقاع الجورجينة العراقي
لقد أنشد موشح "يا غصن نقا" أشهر الفنانين والفرق الموسيقية. في العراق حيث أنشده يوسف زعرور وكذلك فرقة الانشاد العراقية:
كما أنشدته الفنانة العراقية فاطمة الظاهر في حفل ثقافي خاص بالمُوشِّحات في المعهد الثقافي الفرنسي عام 2002، وقد قدمتُ هذا المُوشِّح مع تسعة مُوشِّحات أخرى جميعها مُوشِّحات عراقية:
أعجب الموسيقيين العرب بلحن هذا الموشح فأخذه العديد من فناني مصر وسوريا لغنائه ولكن واجهتهم مشكلة الأيقاع الغريب الذي لا يعرفون ضغوطه مما أضطرهم الى تغيير الأيقاع من أيقاع الجورجينة المركب 10/16 وتحويله الى إيقاع بسيط يسمى الدارج 3/4 مما أفقده جماله ورصانته التي تألق بها مع إيقاع الجورجينا ، ففي سوريا أنشدته فرقة نور الشام على أيقاع الدارج ولكن بنفس لحن الملا عثمان الموصلي
كما أنشده الفنان الكبير صباح فخري:
وفي لبنان أنشدته الفنانة الكبيرة فيروز وقد نُسب اللحن إلى زوجها عَاصِي الرَّحبانِيّ (1923-1986):
وفي مصر أدته فرقة الموسيقى العربية:
كما أنشده الفنان علاء قرمان:
كلمات المُوشِّح:
يا غصـن نقا مكللا بالذهبِ ... أفديك من الردى بأمي وأبي
إن كنتُ أسأت في هواكم أدبي ... العصمة لا تكـون إلا لنبي
*****
يا مالك مهجتـي تـرفّـق باللهْ ... لا بدّ لكل عاشـق مـن زَلةْ
روحي تلفت ومهجتي في علة ... لا حـول ولا قـوة إلا باللهْ
*****
الغصن إذا رآك مقبل سجدا ... والعين إذا رأتك تخشى الرمدا
يا من بوصاله يداوي الكبدا ... مـا تفعله اليـوم تلقـاه غدا
*****
لو صادف نوح دمع عيني غرقا ... أو شاهد لوعتي الخليل احترقا
أو حُمِّـلت الجبـال ما أحمله ... صارت دكّاً وخرّ موسى صعقا
*****
يا من سألك عن الهوى كن عادل ... احذر تبلى وخل عقلك عاقل
واسـمع مثلا من منتبه لا غافل ... الحب أذى والعشق سم قاتل
*****
تالله لقد سمعت في الأسحارِ ... عـن جارية تـدق بالأوتارِ
تالله لقد سمعت من منطقها ... من عذّب عاشقا جُزي بالنارِ
*****
يا غصـن نقا مكللا بالذهبِ ... أفديك من الردى بأمي وأبي
إن كنتُ أسأت في هواكم أدبي ... العصمة لا تكـون إلا لنبي