الأغنية البغدادية الخمسينية...الملامح والخصائص والتحولات - الباحثة الموسيقية فاطمة الظاهر
2015-04-27
ان الحديث عن الأغنية الخمسينية يجرنا وبالضرورة الى العقود التي سبقتها والى الظروف السياسية والأجتماعية التي كانت البيئة الحاضنة لبذرة هذه الأغنية..........أقرأ المزيد
بحث واعداد : الباحثة الموسيقية فاطمة الظاهر
ان هذا البحث عبارة عن قراءة في الاوضاع السياسية والاجتماعية التي سادت الحياة العراقية وخاصة البغدادية في الفترة ما قبل الثورة العراقية 1958 وصولاً الى فترة الخمسينات والستينات والتي هي محور بحثنا.
ان الحديث عن الأغنية الخمسينية يجرنا وبالضرورة الى العقود التي سبقتها والى الظروف السياسية والأجتماعية التي كانت البيئة الحاضنة لبذرة هذه الأغنية , والتي شهدت أفول الأمبراطورية العثمانية التي كانت مؤشرات تراجعها وتخلفها بالمقارنة مع الأمم الأوربية الناهضة واضحة للعيان , وحسم هذا الأمر بخسارتها في الحرب العالمية الأولى وتقاسم ميراثها بين الأمبراطورية الأنكليزية والفرنسية الناهضة والتي كان العراق من حصة الأنكليز بعد أن توحدت ولايات الموصل والبصرة وبغداد تحت مسمى جديد اسمه العراق ، الذي كان في أقصى حالات الأهمال والتخلف من قبل السلطات العثمانية مما فرض على المحتل واجبات نقل نظمه الأدارية والأقتصادية والسياسية لهذه الدولة الوليدة التي أعتمدت في بداياتها على الأدارة البريطانية المباشرة مالبثت أن فسحت المجال للكوادر الوطنية التي ابتعثت للدراسة في كليات ومعاهد أوربا وفي كافة الأختصاصات لتحل محلها في أغلب مفاصل الأدارة بعد عودتها وهي تحمل مؤهلات لاتقل كفاءة وخبرة عن نظرائها من الأنكليز.
في ظل هذه التحولات الأيجابية وفي ظل الرعاية الملكية ووزاراتها وفي ظل حراك سياسي ديمقراطي ودستوري , كان المشهد الثقافي والأجتماعي يتبلور بأتجاه بناء دولة مستقلة ومجتمع مدني يتفاعل مع معطيات العصر ونظمه الادارية والسياسية , وقد كان لهذا الحراك وتفاعلاته انعكاسا مباشرا على الأغنية العراقية , التي شهدت انتقالة مهمة بظهور الأخوين صالح وداود الكويتي اللذين أختطا لنفسيهما نمطا من الغناء والألحان مغايرة للنمط الغنائي التقليدي والمتوارث بقوالبه الثابتة والجامدة في صيغها , وأقصد المقام العراقي الذي شهد وفي نفس الفترة عملية تطوير وتحديث في أساليبه على يد الفنان الكبير محمد القبانجي ، وقد أسهم دخول الكرامفون ومن ثم الأذاعة في تسجيل ونشر الغناء وكان لتنافس شركات التسجيل دور مهم في عملية تطور الأغنية العراقية الحديثة من أغاني المقام واغنية الأخوين الكويتي وكذلك غناء الريف الذي شهد رواجا وقبولا كما هو حال الأغنية المدينية .
كما أسهم دعم الدولة ورعايتها للفنون عامة من خلال اقامة الكثير من البنى التحتية والتي كان معهد الفنون الجميلة في العام 1936 واحدا من أهم العلامات البارزة في تاريخ الفن العراقي الحديث , وكذلك تشجيع القطاع الخاص على بناء صالات عرض سينمائية والتي كانت مراكز اشعاع ثقافية وفنية كان لها أثرا كبير على مسيرة الفن في العراق وخاصة الغناء الذي تأثر بالغناء المصري والأستعراضات الراقصة التي كانت سمة بارزة في أغلب أفلام تلك الفترة .
فأذا ما أسهمت الحرب العالمية الأولى بنتائجها في أنشاء الدولة الوطنية العراقية , فقد انعكست أثار الحرب العالمية الثانية واحتلال فلسطين على العراق والمنطقة عموما وما تولد عنها من نزعات للأستقلال عن التبعية للأستعمار لاسيما وأن مؤسسات الدولة الوطنية وأداراتها قد شغلت بكوادر عراقية حاملة تأهيلا عاليا , يمكن تسميته بجيل الحداثة الاولى الذي بدأت تتبلور ملامحه في اواسط الاربعينيات وحان قطاف ثمار جهوده وجدية توجهاته في العقد الخمسيني وعلى كل الأصعدة .
لم تكن الأغنية الخمسينية الأ أمتداد طبيعيا للاغنية العراقية التي حدثها وطورها الأخوين صالح وداود الكويتي اللذان استمرا في تلحين الاغنيات العراقية حتى تاريخ مغادرتها العراق والهجرة الى فلسطين في العام 1950
وفي السنوات الاخيرة من عقد الاربعين ظهرت الحان جديدة لملحنين جدد يسكنهم هاجس التجديد والحداثة في الالحان والغناء ، انعكاساً لثقافتهم الموسيقية المتقدمة ، فأخذوا على عاتقهم مهمة تحريك الواقع الغنائي بغية نقل الاغنية العراقية الى مصاف الاغاني العربية لتسمع في كل الدول العربية وليس العراق فحسب ، والتي تمثل الاتجاه الحديث في الاغنية العراقية ، لذا أتسمت ألحانهم بطابع المدينة العصرية التي تختلف بسماتها اللحنية عن الغناء الريفي او غناء المقام والبستات العراقيه التقليدية والذي كان رائجاً في فترة ما قبل الخمسينيات.
كان لرواج الأفلام السينمائيه المصريه , وخاصة الافلام الغنائية , أثرها البالغ على هؤلاء الفنانين المعاصرين والمجددين بالأغنيه العراقيه , خاصة في فترة الخمسينات التي كانت ثرية بهذه الافلام الاستعراضية والغنائية أذ أنها صارت صناعة تتنافس شركات الانتاج السينمائي على أنتاجها وتوزيعها , مما وسع من سعة أنتشارها بين الجماهير , وكذلك تأثيرها على هذا الجيل من الفنانين الذين سعوا الى محاكاة نماذجهم الغنائية مع الغناء المصري , وقد أنعكس هذا التأثير على الالحان والغناء العراقي الذي أنتجه هذا الجيل , أذ كانت المراحل الاولى من هذا التأثير يتسم بأستعارة قوالب الالحان المصرية , وطريقة الغناء التي كانت تحاكي نموذجها المصري , مما لم يلاقي استحسان جمهور المستمعين من المجتمع البغدادي وأثار هذا الامر أستياء وأستهجان الاوساط الموسيقية والغنائية التقليدية المحافظة مما حدا بالنقاد الى أطلاق تسميتها (بالأغنية البغداديه) لتمييزها عن أنواع الغناء العراقي الاخر.
لقد احسنوا هؤلاء الملحنين الالمام بثقافة موسيقية عالية المستوى تميزت بعملهم وخبرتهم الدراسية وسعة مداركهم وسلامة ذوقهم وحسن أدائهم. فأولى الالحان التي ظهرت كانت للملحنين جميل سليم ووديع خونده ورضا علي مع تغييرات وأضافات مهمة على مستوى السلم الموسيقي والتنوع المقامي والايقاعي وتوسيع المساحات الصوتية مستفيدة ( الأغنية البغدادية ) من تأثر ملحنيها وخاصة في هذه الفترة بقوالب الأغنية المصرية التي كانت تمر في مرحلة تطور وتحديث لأساليبها على يد الفنانين محمد عبدالوهاب وفريد الأطرش ، والتي كان لها رواج كبير وخاصة في الأفلام الأستعراضية والغنائية التي كانت سمة غالبة في السينما المصرية آنذاك .
كان اكثر الملحنين العراقيين تأثرا بالغناء المصري هو الملحن جميل سليم الذي كان يقلد ويحاكي في تلحيناته الغنائية اغاني فريد الأطرش ومحمد عبدالوهاب نتيجة لثقافته الموسيقية المتقدمة , اذ لحن أغنية سمراء على ايقاع التانكو محاكاة لأغنية ( يازهرة في خيالي ) لفريد الاطرش وتانكو ( خليك بعيد عني ) وكذلك أغنية (جمال الليل و سحر الكون) على ايقاع الرومبا تلاها أغنية ( محلى جمالها عيون حبيبي) على أيقاع الفالس ، وقد نالت استحسان المستمع العربي ، مما دعى محطة صوت اميركا الى بث هذه الاغنيات بشكل يومي من خلال اذاعتها على مدى عقدي الخمسينات والستينات مع وصفها للفنان جميل سليم بالمايستروا النابغة
كذلك عمل الملحنون الأخرون بنفس اسلوب الفنان جميل سليم كالفنان رضا علي فكانت اولى اغنياته عام 1949 (حبك حيرني) ثم تلاها بقصيدة زكي الجابر (ذكريات) وأغنية (شدعيلك يلي حركت قلبي) التي ادتها فيما بعد نرجس شوقي، ثم جاءت في العام 1952 اغنية (سمر سمر) والتي فيها رجع الفنان للطابع البغدادي الاصيل والاغنية الشعبية الخفيفة ، وكذلك معه الفنان أحمد الخليل وعباس جميل الذين أنتقلوا فيما بعد ( نتيجة لتطور أمكاناتهم اللحنية ونضجها ) , من مرحلة المحاكاة للالحان المصرية الى توظيفه وتوشيجه مع التراث الغنائي العراقي , الذي نتج عنه تبلور لنمط جديد من الغناء , يحمل سمات وخصائص تميزه عن غيره من أنماط الغناء المحلي , وكذلك أبتعد بمسافة عن الالحان المصرية التي كانت مهيمنة بشكل كامل على اللحنية التي أختطها هذا الجيل لنفسه.
هذه السمات والخصائص أنتجت ما صار يطلق عليه (بالاغنية البغدادية) , وأبرز رموزها جميل سليم وأحمد الخليل وعباس جميل ورضا علي ويحيى حمدي حيث سرعان ما تراجعوا عن تقليدهم للاغنية المصرية بعد ان فشلوا في التأثير في المتلقي العراقي الذي كان معتادا على ايقاع الجورجينا والطابع البغدادي المحلي الاصيل ، مما دعاهم الى العودة الى تراثهم الغنائي العراقي الثري بمقاماته وقوالبه الموسيقية وتطويرها مستفيدين من ثقافتهم الموسيقية وموهبتهم الفذه وتأثرهم بالأغنية المصرية وغيرها من التأثيرات ، فبعد ان كانت الاغنية في فترة الثلاثينيات محدوده في نغماتها وايقاعها , اذ كانت تغنى من مطلعها حتى اخرها بلحن واحد محدود يتكرر على جميع كوبليهات الاغنية وفواصلها الموسيقية ، عمل الملحنون المجددون على التنويع في استخدام المقامات مع توسيع للمساحات الصوتية ، واصبح هنالك تنوع في اللحن بين مطلع الاغنية وكوبليهاتها ، كما اتسمت الأغنية بالمرح والالحان الخفيفة بتلويناتها النغمية . ساعد في ترسيخها ونشرها مجموعة المطربات والمطربين اللذين كسروا حاجز الأداء الثقيل والرصين الى اداء اكثر تعبيرا ورشاقة ومرحا يتسق مع روح المرحلة التي كانت في ذروة تطلعها الى المستقبل نتيجة لتطور النظام السياسي والاقتصادي الذي شهد نموا وتطورا نسبيا في حياة المدن وخاصة العاصمة بغداد ، ومن اولئك المطربات أحلام وهبي وعفيفة اسكندر ولميعة توفيق ومائدة نزهت.
تنبه بعض من الملحنين النابغين كالفنان جميل سليم الى اهمية التعدد المقامي والتوزيع الموسيقي التي كانت غائبة عن قاموس الاغنية العراقية ، فعمل على توزيع اعماله الغنائية كما هو الحال في تلحينه وتوزيعه لقصيدة ( ازهور الرهوات) التي لحنها في بداية سنوات الخمسينات والتي تعتبر قطعة موسيقية نادرة وفريدة من نوعها وليس لها مثيل بين الالحان العراقية وكانت نقلة مهمة في مجال التلحين والتوزيع الموسيقي والتي انعكست آثارها على الأجيال اللأحقة ولفترة الستينات تحديداً الى السعي في اعادة صياغة الألحان التراثية بتوزيع جديد وتنوع مقامي نال الأستحسان والقبول
، كذلك عمل الفنان والملحن عباس جميل على الخوض في غمار تجربة التوزيع الموسيقي الهارموني الذي يتطلب الخبرات والعلوم المتخصصة بها وقد استعان بالموسيقار الجيكي (كوبتسا) في توزيع أغنيتة ( جا وين اهلنا) سنة 1966 التي قدمت في اوربا ونالت استحسان الذوق الغربي .
كذلك وضع الفنان البصري مجيد العلي توزيعاً جديداً لأغنية ( ألوجن ) التراثية في العام 1966 التي غناها الفنان جاسم الخياط وأغنية ( إنعيمة ) عام 1966 والتي غناها الفنان جعفر حسن
كذلك الفنان سالم حسين وتوزيعة الجديد للاغنية التراثية ( فوق النخل ) في العام 1969 والتي غناها فؤاد سالم ، حيث كان كل هذا جزءاً من عملية التحديث والتطوير للأرث الموسيقي والغنائي العراقي.
كذلك شهدت فترة الخمسينات انتعاش في تلحين الموشحات والقصائد وهذا الامر اقترن بالتطور الثقافي والاجتماعي في تلك الفترة واضاف هذا النمط من الغناء رقي في الذائقة الغنائية لما تتسم به القصائد والموشحات من شعرية الكلمة وعذوبتها وسمو معانيها بعد ان كان الغناء الشائع يعتمد المفرده الشعبية البسيطة في معانيها والفاظها. فلحن جميل سليم موشح اللؤلؤء المنحدر في العام 1952 وموشح مداك ما لا يحصر في العام 1958 والموشحين للشاعر العلامة محمد سعيد الحبوبي
ولحن احمد الخليل موشح الخمار الاسود في مرحلة الخمسينات اضافة الى الموشحات العراقية العديده التي كان مختصاً بتلحينها الموسيقار روحي الخماش ، وعلى مستوى الغناء فقد تبنى المطرب ناظم الغزالي غناء القصائد والتي شكلت رواجاً عربياً كبيراً.
وكما هو الحال في كل مرحلة تاريخية غنائية تفرز الساحة الفنية ملحنيها ومطربيها , تطرح كذلك كتابها ومؤلفيها ممن يعبرون عن هواجس هذه المرحلة وحاجات الناس وتطلعهم الى حياة مدنية ناهضة , اذ كانت كلمات أغنياتهم على الأغلب تميل الى التعبير عن التجربة الذاتية والرومانسية المرتبطة بالتعبير عن مشاعر الحب مع مايتخللها من عتب وهجران وأمال , وكان من أكثر المؤلفين حضورا في هذه الفترة كل من جبوري النجار وسيف الدين ولائي ، رغم وجود العديد من كتاب الاغنية امثال زاهد محمد وسبتي طاهر وحسن نعمة العبيدي ومجيد كاظم وحسين الطيار وعبد الستار القباني وجودة التميمي.
ان مما أسهم في تطور الأغنية الخمسينية وترصينها هو العمل المؤسسي الذي نهضت به بعض المعاهد والمؤسسات الفنية والتربوية التي كانت قد تشكلت خلال هذه الفترة أو قبلها وبعدها بقليل والتي كانت ترفد الساحة الغنائية والموسيقية بالمواهب والمهارات الأكاديمية. ومنها معهد الفنون الجميلة الذي اسسه وأشرف عليه وترأسه الشريف محي الدين حيدر في عام 1936 ، الذي وظف دراسته ومهاراته بالعزف على الآلات الغربية والشرقية وتآليفه للسماعيات والقطع الموسيقية ، وظفّها جميعاً في تطوير قسم الدراسات الموسيقية في المعهد الذي تخرج منه ابرز ملحني مرحلة الخمسينات كالفنان جميل سليم وسالم حسين وعباس جميل وغيرهم من اللذين درسوا على يد أفضل الأساتذة والكوادر الفنية التي تعتمد المناهج العلمية في التدريس ، وقد عمدت الحكومة العراقية وقتها على استقدام العديد من الكوادر الفنية الاجنبية للاسهام في رفع المستوى الفني الموسيقي في العراق مثل الشريف محي الدين حيدر لالة الجلو ، ساندو البو لاله الكمان ، الشيخ علي الدرويش لالة الناي ، جوليان هيرتز لالة البيانو ، وفي مرحلة لاحقة الموسيقار مسعود جميل بيك الطنبوري لالة الجلو ، نجدت اورال لالة القانون ، جودت جاغلة لالة الكمان الشرقي والاستاذ المصري عبد المنعم عرفة لمادة التاريخ ونظريات الموسيقى ومدام طوفتيان لمادة تربية الصوت واخرين غيرهم.
وكجزء من الأهتمام الحكومي بالفنون وأهمية نشرها وتعليمها بما يتوافق مع اهدافها وتطلعاتها لبناء دولة حديثة فلقد أولت أهتماما كبيرة بالنشاط المدرسي , أذ أنشأت لها مديرية خاصة تهتم بوضع برامج وسياسات ودعمها ورفدها بالكوادر المتخصصة في مجالات الفنون ومنها الموسيقى والغناء التي كانت واحده من روافد تغذية الساحة الفنية والثقافية بالمبدعين , لاسيما وأن الكثير من المدارس كانت تحتوي على قاعات ومسارح لممارسة هذه الأنشطة وأعتبارها مادة منهجية مهمة , اذ كانت تقام فيها الكثير من الأنشطة الفنية كالحفلات والمهرجانات الفنية والمسابقات التي كانت تحظى بالرعاية والحضور من قبل العائلة المالكة أو من قبل الوزراء . ولايمكن نسيان دور الفنان اكرم رؤوف بابان أستاذ النشاط الفني في دار المعلمين في الاعظمية الذي كان له الفضل في تعليم ورعاية الكثير من الطلبة الموهوبين اللذين شغلوا حضورا مهما في الساحة الغنائية والفنية في العراق .
ساهم أفتتاح تلفزيون بغداد في العام 1956, بالأضافة لما سبقه من وسائط التسجيل كالاسطوانات وافتتاح أذاعة بغداد في العام 1936 على نشر الأغنية , وساهم في توسيع عملية أنتاج وتسويق ونشر الغناء على نطاق أوسع , لاسيما وأن أكثر الحفلات الغنائية كانت تبث بشكل مباشر وهذا يتطلب وجود فرقة موسيقية جاهزة , ساهم في تشكيلها والأشراف عليها الفنان جميل بشير اضافة الى جهود الفنان روحي الخماش الذي اسهم في تشكيل فرقة الموشحات الاندلسية مع الشيخ علي الدرويش في العام 1948 والتي خرجت اغلب الأصوات الغنائية وملحني فترة الخمسينات .
في فترة الخمسينات وتأثرا بالغناء والأفلام الغنائية المصرية التي اسهمت دور السينما في نشرها , سعى الكثير من المنتجين العراقيين والعرب الى التنافس من خلال محاكاة هذه التجربة السينمائية , أذ تم انتاج مجموعة من الافلام العراقية التي كانت اغلبها غنائية ومنها : فلم ارحموني سنة 1950 بطولة الملحن رضا علي حيث قدم فيه مجموعة من اغنياته الحديثة ، ولعل استعراض وادي الرافدين خير نموذج لشكل الاغنية الخمسينية في بداية ظهورها لما حوته من تنوع مقامي وايقاعي وتوزيع موسيقي قدمت بشكل دويتو مناصفة مع المطربة وفاء وبشكل استعراضي راقص
ولنجاح الحان الفنان رضا علي في هذا الفلم فقد دعي ليمثل في فلم ( لبنان في الليل ) من اخراج المطرب اللبناني محمد سلمان مشاركةً مع المطربة صباح وسميرة توفيق والممثل المصري رشدي اباظه وقد غنى فية أغنية اسألوا لا تسألوني ، كذلك ساهم في فلم ( يا ليل يا عين) انتاج لبناني ايضاً وغنى فية معظم اغانية.
كذلك قام الملحن عباس جميل ببطولة فلم ( الدكتور حسن) في العام 1954 تشاركة البطولة المطربة مائدة نزهت وقد قدما فية مجموعة اغنيات للملحن عباس جميل ..
وفي فترة الستينيات انتجت السينما العراقية فلم (البصرة ساعة 11) سنة 1961 حيث غنت فية غادة سالم الحان الموسيقار سالم حسين وغنت احلام وهبي الحان الفنان خزعل مهدي
وفي فلم درب الحب في العام 1966 ، غنت فية لميعة توفيق الحان الموسيقار سالم حسين اما فاروق هلال فقد قدم اغنيات الملحن احمد الخليل في هذا الفلم ، وجميع هذه الاعمال الغنائية تمثل الفترة الاولى التي قلدوا فيها الملحنين العراقيين قوالب الاغنية المصرية .
وكنتيجة لتطور الغناء والموسيقى ظهرت الحاجة الى استحداث لجان موسيقية لدائرة الاذاعة والتلفزيون , على مستوى عال من الخبرة وتحمل المسؤولية في انتقاء الأغنيات التي صارت تبث الى الجمهور الواسع من خلال الأذاعة والتلفزيون , وكذلك أعتماد معايير صارمة في اختيار المطربين أو العازفين يمكن لمن يجتازها أن يمارس موهبته كل في مجال تخصصه . لذلك استحدثت لجنتين ، الاولى لجنة أختبار الاصوات وفحص الالحان ، ولجنة ثانية لفحص النصوص .. كانت لجنة فحص الالحان برئاسة الفنان سمير بغدادي ( وديع خونده) بأعتباره رئيساً لقسم الموسيقى في الاذاعة والتلفزيون وعضوية الموسيقار روحي الخماش ومنير بشير وعلاء كامل ، اما لجنة فحص النصوص كانت برئاسة الشاعر محمد هاشم وعضوية الموسيقار والشاعر سالم حسين وابراهيم الزبيدي وناظم السماوي.. لقد كانت هذه اللجان صمام الامان في الحفاظ على الاغنية البغدادية من حيث موافقتها للمعايير التي وضعتها هذه اللجان من حيث النصوص واللحن والاصوات المؤدية.
يمكننا القول ان فترة الخمسينات كانت مرحلة التأسيس والتجريب وبناء للمؤسسات الفنية , والتي كانت زاخرة بكثرة الأسماء وتنوع توجهاتها الغنائية واللحنية كما أمتازت بكثرة المطربات اللواتي أصبحن يشغلن مساحات واسعة من الشهرة والحضور من خلال الأذاعة والتلفزيون والسينما تبلورت ونضجت في مرحلة الستينات التي لم تشكل أضافة نوعية لمراحل الغناء في العراق بل كانت استمرار لمرحلة الخمسينات وتنضيجا لأساليبها اللحنية والغنائية , لاسيما وأن هذا العقد شهد تحولات سياسية وصراعات ايديولوجية حادة وأنقلابات عسكرية دموية بدأ من تصفية العائلة الحاكمة ورموز الحكم الملكي مرورا بعمليات التصفيات التي كان يتبادلها اطراف الحركات السياسية المتصارعة آنذاك
لقد ساهم تراجع الخطاب اليساري والقومي على اثر هزيمة حزيران عام 1967 في عمل مراجعات وفرض واقعا جديدا وأنشغالات سياسية وأجتماعية جديدة ستكون سمة لمرحلة السبعينات، لذا يمكن القول وعلى مستوى تأثر الأغنية بالظروف السياسية وألأجتماعية بأن أرهاصات الأغنية السبعينية وجنينها كان ينمو في رحم العقد الستيني وتحولاته الدراماتيكية ، وهذا ما سنكتب عنه ونوضحه في بحثنا اللاحق.
ملاحظة : تم نشر هذا البحث في موقع الحوار المتمدن بتاريخ 27/4/2015 يمكنك الاطلاع عليه من خلال هذا الرابط