تنطوي التجربة الأبداعية على قدر كبير من السحر والمغامرة والجمال الأخاذ الذي يخفي تحت طبقاته النفسية والأجتماعية قدرا كبيرا من الألم والمعاناة والبعض منها يحمل حكاية درامية لطالما كانت السر وراء الكثير من المنجزات الأبداعية المبهرة, التي لم تكن في غالبها معبدة بسجادة حمراء تتوزع على جوانبها الزهور, بل مسيرة على درب من الألام والأوجاع والقلق والنزوع الى التميز , وكأن نبيذ الجمال والأبداع لايفصح عن تميز نكهته ومذاقه من دون هذه الخلطة السحرية , التي هي عصارة روح وجسد المبدع تمتصها موهبته لتنتج أثرا مميزا سيكون شاهدا على رحيله المبكر ليؤسس وجودا في ذاكرة الزمن والناس عبر ماتركه من منجز يدل عليه وعنوانا دائما يشير الى وجوده . بمثل هذه المرويات تتحدث سير مبدعين كبار مثل بدر شاكر السياب والشاعر الفرنسي رامبو وسيرة حياة الموسيقار بتهوفن وغيرهم الكثير.
وبطل حكايتنا هذه الراحل علي حمدان فنان شاب من سوريا مرهف الحس وعازف ماهر على آلة الأورك والقانون عاجله الموت وهو في أوج فورة الصبا والشباب وفي ذروة تفتح موهبته الموسيقية التي كان يمكن لها ان تتأصل بالألحان والتأليف الموسيقي الذي شغف به . ولكن للأقدار أحكامها أحيانا دون الألتفات الى مساحة الأمل والحياة والطموح التي كانت تسكن روح وجسد هذا الشاب الصبور والخجول الذي نسج شخصيته الموسيقية بالدراسة والمثابرة والثقة بالنفس والأمل بمستقبل كان يراه على شاشة طموحه وأنجازاته المتحققة من خلال مشاركاته في المهرجانات والمسابقات والحفلات الموسيقية التي كانت مصداقا لتميزه والأعتراف بموهبته التي حصد من خلالها الجوائز ورضا وتفاعل الجمهور
صورة علي حمدان مع السيدة أسماء الأسد
الموهبة ومن ثم الأبداع حالة لا تصنع في المختبرات أو المعاهد الأكاديمية , بل هي نوع من الموهبة والأستعدادت الفطرية تتوفر عند أفراد محدودين وتغيب عن الجموع الغفيرة من الناس وهذا هو السبب في قلة وربما ندرة المبدعين في كل جيل ومن المؤكد أن هذه الموهبة لكي تتفتح وتثمر أبداعا وتميزا بحاجة الى بيئة حاضنة تبدأ بأكتشاف هذه البذرة ومن ثم رعايتها وصقلها بالدرس الأكاديمي والتدريب .
وهذا ماحصل فعلا في مشوارالراحل علي مع الموسيقى ذلك المشوار الذي أتيح له فرص مؤاتية من الرعاية بفضل والدته السيدة (هناء حمودي) التي كانت تهوى الموسيقى والغناء وتتمتع بقدر من الوعي والثقافة الكافيه لتكون أكثر الداعمين له والتي كانت شريكة رحلته مع الموسيقى والحياة التي أبتدأت من سن السادسة وأنتهت بعمر السبعة عشر ربيعاً تتخللها محطات من النجاحات والمصاعب ، الابتسامات والدموع ، وشراكة حقيقية وكأنها ملاكه الحارس وشاهده الأمين الذي سيحفظ أرثه ومنجزه ونشره فيما بعد رحيله المبكر والمفاجىء. لذا ستكون هذه الحلقة الأولى في سلسلة من حلقات ارتأينا أن تكون مخصصة للتعريف بهذا الفنان الموهوب وبمحطات مسيرة حياته المهمة, على أن تكون الحلقات الأخرى مكرسة للغوص في تفاصيل رحلتة الفنية من خلال المراسلات التي جرت بين السيدة (هناء حمودي) والدة الفنان الموهوب (علي) وبين والأستاذة فاطمة الظاهر مديرة ومؤسسة موقع الوتر السابع ، تلك المراسلات التي تفيض بأحساس أمومي يتأرجح بين هذا الفقدان الفاجع والأيمان بالقضاء والقدر الذي تستمد منه القوة ليس على تحمل هذا الفراق المؤلم فحسب بل على مواصلة المشوار الفني للفقيد الراحل من خلال حفظ ونشر نتاجه الفني الكبير والمشوق والتعريف بسيرته الفنية والحياتية القصيرة بعمرها المزدحمة بأحداثها ، والغنية بتفصيلاتها الزاخرة بالمعاني الفنية والأنسانية .
أستمع الى معزوفة ليالي الجزائر للموسيقار محمد عبد الوهاب - عزف علي حمدان
في سن الثانية من عمرالطفل علي بانت عليه علامات على أهتمامه بالموسيقى والغناء من خلال استماعه لما تبثه السيدة (والدته) من غناء عربي أصيل في منزلها كأي بيت سوري عاشق للطرب الشرقي الأصيل , أذ تنبهت والدته الى أهتمام وشغف الراحل في الموسيقى الذي تحول مع مرور الزمن الى عشق وابداء الرأي بجمال الموسيقى واللحن وهو لايزال صغيراً ، مما أثار هذا الأمر اهتمام أمه وجعلها تولي علياً كل الأهتمام والدعم وخاصة بعد أن بلغ السادسة من عمره الذي يؤهله للقبول في النادي الموسيقي الذي سيكون بيته الثاني ليمضي فيه سنوات طفولته وصباه حتى يوم رحيله عن الدنيا في سن السابعة عشرة من عمره .
أختار علي آلة الأورغ التي ستظل ترافقه في حله وترحاله ما بين سوريا ومصر والاردن ، وعلى أنغامها الشجية وما تمنحه من مساحات وأمكانات تقنية أبدع الراحل الصغير أجمل الألحان لأساطين الغناء العربي منهم فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب وصباح فخري وفيروز و ورده وغيرهم . ولم تكن رحلته في تعلم الموسيقى وصقل موهبته يمكن أن تحظى بالنجاح من دون دعم معلميه في النادي ورعاية عائلته وخاصة والدته التي حرصت ( بعد أتقانه العزف) على زجه في المسابقات المحلية والقطرية التي كانت تقيمها منظمات الشبيبة في سوريا والتي أكد فيها الراحل موهبته وتفوقه على أقرانه من العازفين ونيله كل الرعاية والثناء من المشرفين والموسيقيين القائمين على هذه المسابقات , التي أهلته فيما بعد للترشح لتمثيل سوريا مع مجموعة من الفتية في مختلف الأختصاصات في رحلة الى مصر التي تمثل حلم كل فنان عربي ومثلما حصل له في سوريا كذلك كان الأمر في مصر أذ لفتت موهبته القائمين على الأنشطة الموسيقية والفنية في معسكر الشباب والكشافة الذين أشادوا بعزفه ومهاراته وأحساسه المرهف وخاصة معزوفة (لحن الخلود) لفريد الأطرش التي منحها من روحه وأحساسه نفسا جديدا كان مثار أعجاب كل من سمعها .
لحن الخلود للموسيقار فريد الاطرش - عزف علي حمدان
الطموح والتواضع واحدة من السمات التي وسمت شخصية الراحل الأنسانية والفنية التي كانت تتسم بجمال روحه وعذوبة تواصله مع أصدقاءه وناسه , وطموحه ومثابرته في الأرتقاء بمهاراته وتطويرها لتحقيق حلمه في الألتحاق في المعهد العالي للموسيقى في دمشق الذي كان على مشارف تحقيقه بعد أن يتم دراسته الثانوية , ولتأكيد رغبته لهذه الدراسة علية أختيار آلة موسيقية شرقية , ووقع أختياره على آلة القانون والعودة للدراسة من جديد ولكن هذه المرة من خلال دوس بيتيه خاصة على يد استاذ لاله القانون والتي أجاد العزف عليها في فترة قياسية بسبب جديته ومثابرته ليكون مهيئا للدخول الى المعهد بجدارة تليق به...الحلم الذي لم يتحقق بعد أن أستيقظت من رقادها أوجاع قلبه الغض , والذي كان يعاني من ضيق في الصمام منذ الولادة ولم يكن يسبب له مشكلة صحية طيلة فترة حياته , لاسيما وأنه كان يخضع للمعاينة الطبية الدورية عند أشهر الأطباء المختصين في سوريا ولكن شاءت الأقدار أن تختم حياته الفانية بشكل مفاجيء أثر ظهور عوارض من التعب والأرهاق التي لم تمهله كثيرا حتى مع التداخل الجراحي الذي أجري له..ليرحل بهدوء وصمت بعد رحلة حياتية قصيرة كما الحلم ثرية بالحب والاحلام والعمل والامال , ليترك لمعزوفاته وصخب نغماتها الصادح وما تركه من أثر وحضور في ذاكرة أهله وأصدقاءه ومحبية ...أن تصوغ لحنا خالدا مفعما بالجمال والعذوبة وسلوكا نبيلا متواضعا .