بحث في الاوضاع السياسية والاجتماعية التي أسهمت في إنتاج الاغنية السبعينية في العراق - الباحثة الموسيقية فاطمة الظاهر
2016-06-25
بحث مقدم لبرنامج حكاياتهم - قناة الحرة عراق
ابتداءا لابد ان ننوه من ان هذا البحث هو الاول من نوعه حيث لم يسبق ان يكتب فيه
قامت الباحثة الموسيقية فاطمة الظاهر مشكورة بأعداد مجموعة من البحوث فيما يخص الاغنية العراقية لفترة ( الخمسينات والسبعينات والثمانينات والتسعينيات حتى العام 2000) تعاوناً مع قناة الحرة - عراق لبرنامج ( حكاياتهم ) وبناءاً على طلب مخرج البرنامج السيد ( محمد حسين) ، حيث تُبينْ فية حجم التأثير السياسية المحلي والدولي على مسيرة الاغنية العراقية في العقود المتتالية طوال القرن العشرين ، وتأثير الأغنية المصرية على شكل الاغنية العراقية لتأثر ملحني هذه الفترة في العراق بالأعمال المصرية التي هي الاخرى أخذت منحى جديد على يد روادها محمد الموجي وبليغ حمدي بالاضافة الى الحان السنباطي ومحمد عبد الوهاب ، وتعتبر هذه البحوث أصيلة ومتفردة في سردها وتحليلاتها للأحداث ، واليوم نقدمه لكل الدارسين والباحثين والمهتمين بتاريخ الاغنية العراقية ، علماً ان هذا البحث ومع بحوث أخرى ضُمنت في كتاب أصدرناه في العام 2019 بعنوان ( بغداد يا ليل البنفسج) تأليف فاطمة الظاهر والكاتب الأستاذ قاسم السومري حيث تناولنا فيه أثر الأوضاع السياسية والأجتماعية على الأغنية العراقية على مدى قرن
بحث في الاوضاع السياسية والاجتماعية التي انتجت الاغنية السبعينية في العراق
بحث وأعداد : الباحثة الموسيقية فاطمة الظاهر
شكل العام 1958 ( الثورة العراقية ) تغيرا مفصليا في تركيبة الدولة العراقية الوليدة والناهضة التي كانت واثقة ليس من تطلعاتها وتوجهاتها فحسب بل ومن علاقاتها الأقليمية والدولية....( دار السيد مأمونة ) كما عبر عنها أهم رمز لها حينذاك ( نوري السعيد ) حين وصلته تقارير استخبارية تشير الى مخططات وتوقيتات لتحركات عسكرية بنية الأنقلاب على نظام الحكم , تأكدت فيما بعد في الرابع عشر من تموز , الذي أختلف المؤرخون والكتاب على توصيفه (كحدث) بين كونه انقلاب على حكم رشيد وحكيم ودستوري وبين كونه ثورة على حكم عميل للأستعمار , والذي أستمر سجاله الى يومنا هذا ...؟؟؟؟ ومثلما يقال بأن الثورة تأكل أبناءها كذلك فعلت الثورات بعد عام 1958 ببعضها البعض .
كان عقد الستينات من القرن العشرين في العراق زاخرا بالأنقلابات , والصراعات السياسية الحادة التي كان يتقاسم ساحاتها اليسار الشيوعي بأمتدادته العالمية المتمركزه في موسكو ، والقومي المنقسم بين التيار الناصري وحزب البعث (المتحالفين حينا والمتقاطعين في أغلب الأحيان ..؟) , والتي حسم أمرها في هزيمة 5 حزيران 1967 بأحتلال اسرائيل شبه جزيرة سيناء من مصر والضفة الغربية والقدس من فلسطين وأحتلت الجولان من سوريا , والذي شكل صدمة ليس للشعوب الموهومة بالأيديولوجيا وبحراسها الأمناء فحسب , بل للحكومات التي كانت موهومة بقوة الأيديولوجيا وما تبثه من أحساس بالعظمة لرجال كان يصدرهم ويسوقهم اعلام موهوم حينا ومرتزق في أغلب الأحيان , كأشباه للألهة أن لم يوهموهم بأنهم هم الألهة ذاتها.
ولكن لايمكننا أنكار الجوانب الأيجابية التي شهدها هذا العقد من محاولة الحكومات التي كانت تؤمن بالفكر اليساري من تحقيق انجازات ايجابية ان كان على مستوى النهوض الأقتصادي والأجتماعي المدعوم بتشريعات وقوانين بهدف تحقيق العدالة الأجتماعية نسبيا أو على المستوى الثقافي من خلال التوسع في نشر المدارس والكليات والمعاهد العالية التي شهدت تطورا ونموا مهما ، كان للطبقات الفقيرة والمناطق المهمشة حصة مهمة فيها وعلى وجه الخصوص المناطق والمدن التي هاجر سكانها بكثافة عالية خلال عقود الاربعينات وتصاعدت بعد عقد الخمسينات والستينات من القرن العشرين ، من محافظات الجنوب واستوطنت العاصمة بغداد ( الثورة والشعلة ) وغيرها ، والتي شكلت حاضنة ريفية في قلب بغداد لاحتضان الغناء الجنوبي والترويج له , وكذلك استكمال وتطوير المؤوسسات الثقافية والفنية التي كانت ترفد المشهد الثقافي والأبداعي بالكوادر الأبداعية والمهنية . وأذ يؤرخ الكثير من النقاد والباحثين لعقد الستينات كمرحلة ثانية للحداثة في مجالات الادب والفن التي تعد استكمالا لمرحلة الحداثة الأولى ( التي نشأت ونمت وتطورت في مرحلة الأربعينات وأثمرت في الخمسينات) , فقد استكملت اركانها في هذا العقد (الستينات) وتفتحت في العقد السبعيني من القرن العشرين .
وفي اوروبا فقد كان هناك صدى لصوت عالمي يحتدم وينعكس اثره داخليا على الشباب العراقي , من خلال الصراع بين المعسكر الرأسمالي بقيادة أمريكا وبين المعسكر الأشتراكي بقيادة الأتحاد السوفيتي مدعوما بحركات التحرر والأستقلال، كثورة الحقوق المدنية التي قادها مارتن لوثر في ستينيات القرن المنصرم وحركات حقوق المرأة في أمريكا ، وثورة الطلبة في فرنسا ( 1968 ) التي أجبرت رمز المقاومة والجمهورية الفرنسية شارل ديكول على الأستقالة، والانتشار الواسع للافكار اليسارية والاشتراكية التي تبنتها معظم الدول الاوربيه متمثلة بالاحزاب الاشتراكية واليسارية (كالحزب الاشتراكي الفرنسي ، حزب العمال البريطاني والاحزاب الشيوعية التي تحققت لها مقاعد مهمة في كل من اسبانيا وايطاليا وغيرها من الدول الاوربية). كذلك شهدت اوروبا مواقف ثقافية وأجتماعية تمثلت في حركة الهبيز ، والروك أند رول في أمريكا , وحركت التمرد على الحداثة وماجلبته من نزعة استعمارية كولونيالية وتهميش لكل ثقافة تتعارض معها , كذلك شيوع الفكر والثقافة الوجودية متمثله بقطبها الاشهر بول سارتر (الذي يعد زعيم الوجودية في العصر الحديث) والبير كامو وآخرين ، والمؤمنه بأن الإنسان هو المشكلة الأساسية التى يجب أن يكون له أولوية الصدارة في الفكر الإنساني فأستنبتت بذور مابعد الحداثة بكل ماتحمله من قيم ومفاهيم تؤمن بالحوار والمشاركة وقبول الأخر المختلف ثقافيا .
كل هذه الاحداث التي تدور في العالم لم يكن الشباب العراقي بمنى عنها بل كان يتفاعل معها وبقوة نتيجة الوعي السياسي الحاصل لدى هؤلاء الشبيبه.
شكلت هزيمة حزيران نكوصا وتراجعا للمد الناصري والقومي وكذلك للمد اليساري , نتج عنه تغيير في أنظمة الحكم في كل من العراق وسوريا والسودان وليبيا كرد فعل على الهزيمة , مما فرض عليها ( الأنظمة) نوعا من المراجعات في خطابها السياسي الأستئثاري والتصارعي مع المعارضة الى خطاب أكثر انفتاحا وقبولا واحتواءاً لها . وهذا مايمكن ملاحظته في تجربة الحكم في العراق في بداية السبعينات التي اتجهت الى عقد مصالحات سياسية مع الأكراد من خلال بيان 11 آذار الذي اعترف بالحقوق الثقافية للكرد ومنحهم حكما ذاتيا في العام ( 1970) والأعتراف بالحقوق الثقافية للتركمان, وكذلك عقد مصالحة تاريخية مع الحزب الشيوعي وغيره من الأحزاب الناصرية والقومية من خلال ماسمي حينها ب(الجبهة الوطنية التقدمية) في العام (1973) التي اتاحت لهذه الأحزاب فرصة المشاركة النسبية في الحكم وممارسة أنشطتها الثقافية والسياسية بشكل واسع كان له دورا مهما في تنشيط الحياة الثقافية والسياسية وأعطاءها جرعة منشطة كافية لتشكل مرحلة استثنائية في تاريخ العراق الحديث ، حيث تحول الصراع من صراع ايديولوجي دموي عنيف والذي كان سائداً في الستينات الى صراع سياسي ثقافي ، وقد حرصت السلطة الى التوسع في دعم الانشطة ورعايتها بهدف نشر خطابها الايديولوجي والسياسي كما هو الحال في كل الانظمة الشمولية ، مما أتيح للحكومة فرصة لتحقيق برامجها السياسية والثقافية والأقتصادية , وكان لتأميم النفط وتعاظم موارد الدولة المالية بعد رفع اسعار النفط عقب حرب 1973 دورا مهما في تحقيق طفرة اقتصادية مهمة أنعكست على حياة المجتمع بزيادة الدخل الفردي وكذلك التوسع في بناء المدارس والكليات والمستشفيات وبناء مراكز للشباب وحملة محو الأمية وفرض التعليم الألزامي والتوسع في دعم الزراعة والصناعة وغيرها من الخدمات والتي استمرت في نموها وتصاعدها لحين استلام صدام حسين رئاسة العراق عام 1979 ودخول العراق حربا مع الجارة ايران.
في ظل هذا المشهد البانورامي ( المحلي والأقليمي والدولي) وتفاعلاته تشكلت أرهاصات الأغنية السبعينية بملامحها وخصائصها المميزة كحلقة في سلسلة تطور الأغنية العراقية منذ العشرينات مرورا بأغنيات صالح الكويتي في ثلاثينات واربعينات القرن العشرين وصولاً الى العقد الخمسيني الذي أفرز نمطا غنائيا متفردا أمتد الى العقد الستيني الذي شهد ذروة نضوجه, وأستنبتت فيه بذور الأغنية السبعينية كأفراز طبيعي وتطوري وكناتج لأستخلاصات التفاعلات الأجتماعية والسياسية المتسارعة في احداثها التي شهدها هذا العقد من القرن العشرين .
قد يكون من الأخطاء الشائعة , عند الأشارة الى الأغنية السبعينية حصرها في جيل أو نمط غنائي واحد ممثلا ببعض رموزها مثل (طالب القرة غولي ، كمال السيد ، كوكب حمزة ، محمد جواد أموري ، ومحسن فرحان وغيرهم ) ممن ينتمون الى نمط غنائي متقارب في اختياره للقصيدة الشعبية وفي البناء اللحني والاسلوب الأدائي الذي سنأتي على تفصيله لاحقا . ومع ان هذا الجيل شكل نقلة مهمة في اللحنية العراقية تسيد الساحة الغنائية لما يمتلكه من مواهب وثقافة موسيقية ووعي أجتماعي وسياسي , ولكن هذا لايلغي الجهود الأبداعية لملحني ومطربي الأنماط الغنائية الأخرى كالملحن محمد نوشي الذي ساهم في تطوير الأغنية الريفية في فترة الستينيات ( كأغنية سبحان الجمعنا بغير ميعاد ، وأغنية هذا منو دك الباب للمطربة الريفية وحيده خليل) ، واغنية هذا الحلو كاتلني يا عمة للمطربة لميعة توفيق ،( وسفرتكم لاتطولوها ، تتندم ، وياسفانة للمطرب الريفي عبد الصاحب شراد) ومن ثم تمدينه للاغنية الريفية كما سمعناها في الحانه التي تفرد بها المطرب الريفي سعدي الحلي الذي شكل ظاهرة متفردة في فترة السبعينات من خلال الحان محمد نوشي (أغنية عشك اخضر وأغنية ليلة ويوم).
كما هو معروف أتسمت مراحل الأستقلال التي سادت في فترة الخمسينات والستينات وأمتدت الى السبعينات , بشيوع نموذج الدولة المركزية ذات البعد الأيديولوجي والفكرالشمولي ، والتي عادةً ما تهتم بنشر افكارها وايديولوجيتها عبر عدة ممارسات جماهيرية تبدأ من المدرسة ولا تنتهي بالمصانع والحقول بل تشمل كل قطاعات المجتمع يرافق ذلك بذخ في الصرف على البنى التحتية والرسائل الاعلامية الموجهه من خلال الاذاعة والتلفزيون والسينما وغيرها ، وبالتأكيد سينعكس هذا الامر بأثر ايجابي على تنشيط الحركة الثقافية ولكن التجربة تبقى قاصرة وسلبية طالما انها لا تعبر الا عن وجهة نظر السلطة وليست عن وجهة نظر الابداع وحريته والبوح الذي ربما قد يكون في بعض الاحيان مغايراً .
فأنشأت الدولة المدارس والمعاهد الفنية ومنها ( مدرسة الموسيقى والبالية 1969 ومعهد الدراسات النغمية 1970 مع وجود معهد الفنون الجميلة الذي انشأ في العام 1936) كما ظهرت فرق الكورالآت والمجاميع الغنائية وعلى رأسها فرقة الأنشاد العراقية التي أعيد تأسيسها على يد الموسيقار روحي الخماش في العام (1971) ، وازدهرت اعمال المغنين الريفيين ، وكذلك ماشهده معهد الدراسات النغمية من استحداث الفرق النغمية الشبابية واستحداث قسم لتدريس قراءة المقام العراقي ، وتخرج مجاميع كبيرة من قراء المقام ، وأنتشار بيوت للمقام العراقي في أغلب المدن العراقية الكبرى ، مع وجود فرقة الاذاعة والتلفزيون
كذلك ظهور الفرق الشبابية التي تعتمد الباند الغربي والتي كانت تعزف وتغني في صالات النوادي الاجتماعية والفنادق الكبرى ومطاعم الدرجة الاولى ، حيث ظهر تيار الاغنية الاوربية الخفيفة والذي تزامن مع توسع وظهور العديد من الفرق الشبابية على اختلاف الوانها الغنائيه واهدافها ، مستخدمه الالات الاوربية الخفيفة كالجيتار والاورج والطبول والصنوج الكبيرة وما يسمى ( بالباند الغربي) ، تؤدي الغناء الاوربي الخفيف أومؤلفات عربية قائمة على نماذج الغناء الاوربي أمثال (فرقة اراكس في العام 1967 ، فرقة تندر في السبعينات ، فرقة ليدي بيرد في السبعينات ، فرقة ايكلز في السبعينات وفرقة سبايدر وغيرها) ، وكذلك فرقة الهام المدفعي التي كانت تقدم الغناء الاوربي اضافة الى الغناء التراثي العراقي بأسلوب يحاكي الغناء الاوربي الخفيف.
وفي نفس الفترة ظهرت الفنانة سيتا هاكوبيان كأول فتاة عراقية تغني مع الباند الغربي وعلى مستوى الاذاعة والتلفزيون
تبنت سيتا هاكوبيان غناء الاغاني الخفيفة مثل (رايحة يا شوك لحبيبي 1973 ، أغنية بهيده 1974 ، أغنية شوكي خذاني ، صغيرة جنت ، دار الزمان وداره .. .. وغيرها ) ، صوت سيتا ونمط غنائها شجعت بعض من الملحنين أمثال طارق الشبلي الذي لحن ما يقارب 90% من اغانيها مثل اغنية ( لالي لالي ، شوكي خذاني ، صغيرة جنت ، ابهيده ..وغيرها الكثير) ، وكذلك الملحن الشاب المجدد جعفر الخفاف في صياغة الحان تتسم بالمرح والخفة والعذوبة ( نحب لو ما نحب ، دار الزمان ودارة.. وغيرها ) ، حيث شكل هذا النمط من الغناء خروجاً على نسق الاغنية العراقية التقليدية (التي تتسم بجدية مفرداتها والحزن وايقاعاتها الثقيلة) مما شكل عامل إثراء لها . فكانت جزء من عملية التحديث والتجديد في الغناء السبعيني وقد نجحت تجربتها والتي تماشت مع فرق الباند الغربي التي كانت قد ازدهرت اعمالها في هذه الفترة تلبية لأذواق شرائح من المجتمع الميال للانفتاح على الغناء المتسم بالايقاعات والالات الغربية.
اضافة الى الفرق الموسيقية المحلية في كل من كركوك والموصل والبصرة
وكنتيجة مباشرة للأوضاع السياسية المنفتحة نسبيا ظهرت أنماط جديدة في الغناء العراقي متمثلا بالأغنية السياسية التي برع فيها الفنان جعفر حسن ، متمثلة في (فرقة الرواد 1974 وفرقة الاجراس 1975)
وشيوع نمط غنائي جديد يمزج بين المسرح والغناء سمي بالأوبريت التي كانت في معظمها تتناول الاوضاع الاجتماعية والسياسية التي كان يمر بها المجتمع العراقي أنذاك ، حيث تخصص بها فناني البصرة كالفنان حميد البصري الذي وضع (اوبريت بيادر الخير) والفنان مجيد العلي ( أوبريت نيران السلف)، و(أوبريت المطرقة) للفنان طالب غالي
ولا يمكن أنكار جهود الباحث والموسيقي سعدي الحديثي في توثيق وتطوير الغناء البدوي.
ولصعوبة الألمام في رصد وتحليل كل هذه الأنماط الغنائية وتطورها في بحثنا المكثف والمركز هذا , نكتفي بالأشارات لها ولوجودها المهم في المشهد الغنائي العراقي السبعيني , وسنركز على النمط الغنائي الذي تسيد الساحة الغنائية وتفرد بأسلوبيته وتحديثاته المتميزة التي شكلت علامة فارقة في تاريخ اللحنية العراقية والتي اطلق عليها تسمية الاغنية السبعينية.
ثمة عوامل ثقافية ووسائطية (أضافة الى العوامل السياسية والأجتماعية التي فصلناها في الحديث عنها سابقا) , أسهمت في التهيئة لظهور الأغنية السبعينية , ومنها أنتشار التعليم وتوسعه في عقد الستينات التي اتاحت الفرصة للطبقات الفقيرة والكادحة الانخراط في الفصول الدراسية العامة وكذلك في الكليات والمعاهد العليا ، حيث ساهم التعليم في تثقيف وتطوير الذائقة الفنية وتدريب وتبني المواهب الواعدة من خلال المدارس والمعاهد الموسيقية ( مدرسة الموسيقى والباليه ، معهد الفنون الجميلة ، معهد الدراسات النغمية) ، بالأضافة الى وظيفتها الأساسية وهي التربية والتعليم ، كذلك شهد البث التلفزيوني والأذاعي توسعاً في اغلب المدن العراقيه وخاصةً مع بداية السبعينيات حتى وصل القرى والارياف والاهوار ، وشهدت هذه الفترة ظهور الشريط الممغنط ( الكاسيت) الذي أصبح في متناول عموم الناس لسهولة استخدامه وكلفته المادية المناسبة والذي شكل ظاهرة في انتشار الكثير من انواع الغناء خارج المؤسسة بسبب القيود الصارمة التي كانت تفرضها لجان الفحص على النصوص والالحان او بسبب المواقف السياسية.
كذلك الانفتاح الكبير من قبل الشباب الموسيقي على الاغنية المصرية ورصد تطوراتها , وخاصة في فترة السبعينات التي أتسمت بطول زمن الأغنية وبمقدمتها الموسيقية وتغير بناءها اللحني بشكل مغايرة ومتطور عما سبقها في المراحل السابقة وهذا ما نلاحظه في الحان الموسيقار محمد عبد الوهاب ومحمد الموجي وبليغ حمدي وكمال الطويل والسنباطي والذي كان قد أبتدأ في مصر منذ أوائل عقد الستينات ، والتي تأثر بها بشكل مباشر الملحن طالب القرة غولي الذي يعتبر رائداً في توظيف القوالب المصرية في الغناء العراقي بدءاً من اغنية ليل البنفسج في العام 1972 وفي اغلب الحانه التي استمر تأثير المدرسة المصرية عليها , وعلى الكثير من ألحان ملحني هذه الفترة.
من المعلوم ان أية أغنية ترتكزعلى ثلاث مرتكازات أساسية وهي ( الكلمات ، واللحن ، والأداء ) , لذا فأن تناول الأغنية السبعينية يفرض علينا تناول كل مرتكز وعلاقته بالمرتكزين الآخرين , وفي مجال بحثنا هذا ( الأغنية السبعينية) يحتم علينا تناول هذه الأطراف كمنظومة بلورت الملامح لجيل غنائي تحديثي كامل كان الأكثر تأثيرا في مسيرة الأغنية العراقية الحديثة .
الخصائص اللحنية للأغنية السبعينية
أولا:-
من أهم الخصائص التي يمكن رصدها في الاغنية السبعينية من الناحية الموسيقية , هي المقدمات الموسيقية الطويلة ، حيث تعد المقدمات قطع موسيقية منفصلة بذاتها تهئ اللحن قبل الدخول في الغناء وهي بمثابة الافتتاحية للاغنية وعادةً ما يكون تلحينها بلحن مغايرعن اللحن المغنى في الاغنية ، وقد تصل هذه المقدمات ببناءها اللحني الرصين ل 3 أو 4 دقائق ، اي ما يعادل اغنية كاملة من اغاني فترة الخمسينات ، تشتغل فيها الاوركسترا مع الصولوات والتي غالباً ما كانت تعطى لألة الكيتار والاوكورديون والاورك.
اعطت المقدمة الموسيقية جمالاً وسعةً وثراءاً للاغنية من خلال التعدد بالمقامات والتنوع بالايقاعات ، وخلقت نسيجياً موسيقاً جديداً لم يعرف في الموسيقى العراقية من قبل ، فالملحن العراقي السبعيني كان غني ومشبع بالافكار والجمل الموسيقية والالحان التي كان يوظفها في العمل الواحد ، يضع خلاصة عمله في تأليف المقدمة الموسيقية لذلك يمكننا القول ان المقدمة الموسيقية مقطوعة موسيقية تقع ضمن التأليف الموسيقي ، في حين الغناء يدخل ضمن التلحين ، وهذه سمة من سمات اللحنية السبعينية ( المزج بين التاليف الموسيقي والتلحين) ، وهذا يعني تمكن الملحن من ادواته في صياغة وبناء العمل الموسيقي الغنائي ، ومن نماذج الاعمال الغنائية والتي تبدأ بمقدمات موسيقية طويلة أغلب أغنيات الملحن طالب القرةغولي ( ليل البنفسج ، حاسبينك ، عزاز) ، كذلك اغنية الطيور الطايرة 1973 لكوكب حمزة ، قصيدة اغضب 1973 لجعفر حسن ، أغنية يا حريمة 1972 لمحمد جواد اموري ، و اغنية غريبة الروح 1972 لمحسن فرحان .. اضافة الى التأليف المبدع في الفواصل الموسيقية والتي لا تقل حرفية في صياغتها عن المقدمة الموسيقية وتكاد تتوازى معها في بعض الاعمال.
ثانيا:-.
التوسع في ادخال الآلات الغربية على الآت الفرقة العربية المختلطة (والتي كانت تقتصر على الات التخت الشرقي اضافة الى آلة الكمان والفيولا والجلو ) ففي فترة السبعينات اصبحت الفرقة العربية الموسيقية المختلطة تحوي على الكيتار والاورك والاوكورديون وهذه الالات تعتبر من الات الموسيقى الغربية الخفيفه.
أذ أعتبر هذا جزء من عملية التحديث في الأغنية ، ان وجود الالات الموسيقية وتوظيفها تعتبر المعيار والمقياس الاول والقاعده المادية التي تحدد الالحان التي ستنطلق منها ، فالالات الموسيقية تقوم على مقاييس رياضية وحسابية دقيقة ومحدده ، وكل آلة موسيقية تصنع وفقاً لتلك الحسابات لتضمن نغمات وابعاد موسيقية بعينها ، وهذا يعني وضع الحان خاصة لهذه الالات الغربية لجعلها في خدمة الغناء المحلي والابقاء على اللغه الموسيقية العراقية من ( لحون وايقاعات) معبره عن حسها المحلي الاصيل .
ثالثا :-
التوسع في استخدام التوزيع الموسيقي في الأغنية السبعينية عما سبقها من عقود وخاصة في الستينات الذي شهد محاولات محدودة عند بعض الملحنين . وغالباً ما كانت تعطى صولوات العزف (بالاضافة الى آلات التخت الشرقي كالعود ، الناي ، او القانون) تعطى للالات الغربية كالكيتار والاورك والاوكورديون ، مما استحدث نسيج موسيقي عراقي جديد لم يكن مألوفاً في السنوات السابقة ، وكانت هذه اضافة بارزه لاغنيات السبعينات وللعلوم الموسيقية العراقية .
رابعا :-.
بعد ان كانت الاغنية البغدادية في السنوات السابقة ( الخمسينات والستينات وما قبلها) عبارة عن جملة واحدة تتكون من ثمان بارات متكرره ، والمقدمة الموسيقية مع الفواصل لا تتعدى عن كونها ترجمة للكلام المغنى ، يلاحظ في الاغنية السبعينية اهتمامها بالتنوع اللحني واختلافاته ما بين المقدمة والفواصل وفي الكوبليهات المغناة ، فالكوبلية الاول لا يشبه الكوبليه الثاني في اللحن وكذلك الفواصل والمقدمة الموسيقية في الاغنية فكل جزء من هذه الاجزاء لها لحنها المميز والمغاير للحون الاخرى ، مما دفع الملحنين في الاهتمام بالتعدد المقامي والتوسيع في المساحات الصوتية في الكوبليه الواحد ، واهتمامهم بالتنويعات والزخارف اللحنية التي كانت تشغل حيزاً مهما في البناء اللحني السبعيني ، مما اعطى تلك الاغنيات نوع من التذوق الجمالي العالي والذي يمتزج فيه الحزن بالفرح بالتأمل.
خصائص القصيدة الغنائية السبعينية
بحسب مرجعيات اغلب جيل السبعينات المناطقية والثقافية نجد ان اغلبهم قدموا من الجنوب او من الفرات الاوسط ، وهذه البقعة من الارض تمتلك تاريخاً ممتدا بجذوره الى سومر وأكد ، ومثقلة بتراكمات من الظلم الاجتماعي والطبقي والحرمان ، وقد انعكس هذا الواقع الاجتماعي والسياسي الذي كان سائداً طيلة فترة الحكم العثماني وما تلاه ، من الاهمال والظلم لاسيما في نظامه الاقتصادي الاقطاعي الذي يتسم بالقسوة وبتجريد الفلاح من حقوقة الاقتصادية وامتهان لكرامته الانسانية , أنعكس كموروثاً شعبيا وثقافيا تداوليا على نطاق واسع ( كالشعر والغناء) ومن خلاله يبثون احزانهم وأوجاعهم عبر مجموعة من الاشكال الشعرية منها الحسجة والدارمي والزهيري , بان أثره على الجملة الشعرية الغنائية التي تعززت بالوعي الأجتماعي والجمالي بسبب المرجعيات السياسية اليسارية لاغلب كتابها.
تمتاز قصائد الاغنية السبعينية بثراء تعبيراتها وعمق معانيها واشكال نظمها ، (قصيدة و زهيريات الى دارميات والحسجه) ، وانها تحكي قصه ( قصة حب ، قصة مجتمع، قصة نضال ، قصة وطن ) وان كانت معانيها ضمنيه ، لذا فكلمات الاغاني امتازت بمجموعة من الخصائص يمكن أيجازها بمايلي :
1- الامتزاج بين الذاتي والموضوعي اي يمزج الشاعر همومه الشخصية ببيئته الجنوبية بكل صورها (الثقافية والاجتماعية والطبيعية) وما يختزنه في ذاكرتة التاريخية
2- تتوافر القصيده السبعينية على طاقة كبيرة من الحزن بسبب الارث الكبير من الاضطهاد عبر التاريخ وغياب العدالة والمترسخ في وجدان سكان تلك المناطق.
3- اتسمت القصيدة السبعينية بالصياغة الشعرية المتينة من خلال اعتمادها الكلمات والمعاني البليغة وبثها للصور الشعرية التي تتسم بالعذوبة والجمال معتمدةً على ( الاستعارة والتشبيه) للبيئه المحيطة
4-التزامها بقضايا الطبقات الكادحة والتعبير عن همومها ( كما هو الحال في اوبريتات / بيادر الخير لحميد البصري / نيران السلف لمجيد العلي / المطرقة لطالب غالي).
وبسبب مواصفات وبناء القصيدة السبعينية وتلويناتها الايقاعية وضعت الملحنين امام مسوولية كبيرة في صياغة الالحان بما يتناسب مع ايقاع القصيدة وتلويناتها .. اذ يذكر الملحن طالب القرة غولي بصدد حديثة عن المعالجات اللحنية لأغنية " ليل البنفسج" فيقول :
((ليل البنفسج قصيدة معقدة تشعر ان ايقاعاتها متنوعة وليس ايقاعا واحدا وفيها فكرة ، وفي هذا اللحن عندما وصلت بتلحينها الى مقطع " شلون اوصفك وانت كهرب وانه كمرت عيني دمعة ليل ظلمه " تغير ايقاع القصيده فعلي ان اغير الايقاع اللحني وبقيت حائرا لمدة شهر كيف ادخل هذا المقطع بشغل جديد وايقاع جديد ، وفي ليلة من الليالي وانا احلم بالكلام، واثناء الحلم دخلت بلحن مقطع شلون اوصفك.. فنهضت من فراشي الى العود مباشرةً وعزفت اللحن وسجلته فورا.. هذا اللحن اجزم جزما كاملا باني لحنته في الحلم))."
الخصائص الأدائية ً
لم تكن مصادفة أن يكون أغلب مطربي الأغنية السبعينية ينحدرون من مناطق جنوب العراق ووسطه كما هو حال شعراء وملحني هذه الأغنية , كونهم ينتمون الى فضاء ثقافي وأجتماعي متشابه . فالمفردة الشعرية تتسم بخصوصية تداولية وفيها نوع من الترميز والتشبيه يصعب على من ينتمي الى غير هذا الفضاء فهمه فما بالك بغناءه الذي يتطلب الكثير من الأحساس والتبني لمعاني الكلمات ودلالاتها والتعبير عنها في قوالب لحنية مبتكرة .
ويكاد يكون الغناء والقاء الشعر في مناطق الجنوب شائعاً وراسخاً في وجدان ابناء هذه المنطقة ، كحالة تعبيرية عما يختزنه من ارث موجع وما تمنحة له الطبيعه من مناظر طبيعية خلابة وما يضج به الفضاء من اصوات الطيور المستقرة والمهاجرة والتي كانت تنعكس صورها على وجدان ابناء الجنوب ، فظهرت في هذه الفترة اصوات شابة جديده تبث حناجرها غناءاً جديداً لقصائد رصينه بليغة المعاني زاخرة الصور ، أمثال المطرب حسين نعمة وياس خضر وسعدون جابر وقحطان العطار وفؤاد سالم وسعدي الحلي وحميد منصور وستار جبار وغيرهم الكثيرين.
هنالك أراء لبعض الكتاب والفنانين تقول ان مرحلة السبعينات ريفت الاغنية البغدادية ، وهنالك من يقول ان الاغنية السبعينية هي مزيج من الغناء الريفي وغناء المدينه ، في الحقيقة هذا الكلام غير دقيق ، الفن هو اشكال واساليب والحكم على اي منجز فني يعتمد على بنيته الجمالية وتراكيبه البنائية فكلما كان اكثر تعقيداً كان اقرب الى الابداع وهذا ما نجده في الاغنية السبعينية اذا ما قورنت بالاغاني التي سبقتها. فلو حللنا موسيقاها لما وجدنا فيها ما يدلل على انها ريفيه بل انها اغنية بلحن اكاديمي متقدم ، ولكن كلمات الاغنية أي القصيدة المغناة ، حوت على العديد من الالفاظ والمفردات الريفية الجنوبية لاغراض تعبيرية جمالية ، وحتى هذه الالفاظ ما لبثت ان تغيرت لصالح اللهجة البغدادية فيما بعد ، كما هو الحال في اغنية حاسبينك لفاضل عواد ومعظم اغنياته مثل أغنية ( لا خبر ، عليك اسأل ، ضوة خدك ، واغنية اتنة اتنة ، يالجمالك سومري للملحن البصري مفيد الناصح) وفي تقديري أن الأغنية السبعينية في عموميتها هي اغنية مدينية من حيث التأليف والبناء الموسيقي واللحن والاداء والالات الموسيقية المستخدمة في العمل فهي اكثر تطوراً ونضجاً من الحان أغنيات فترة الخمسينيات ، ألا انها احتوت على الفاظ جنوبية صرفة لأغراض تعبيرية عميقة المعنى بليغة الصور وذات طاقة جماليه عالية.
من الطبيعي وجود اصول واحده للمقامات الموسيقية في غناء الريف والغناء الحضري ، الا ان الغناء الريفي يقوم على أستخدام أنغام محدوده معدوده من اي مقام ويكون اللحن قصيراً مختصراً لا يتعدى نصف المقام ( اي جنس واحد من المقام ) يتكرر على جميع كوبليهات الاغنية من مطلعها حتى اخرها ولا يحوي خصائص الاغنية السبعينية التي ذكرناها أنفاً ، ولكننا في الوقت نفسه لا ننفي ان هنالك من واشج بين الغناء الريفي والغناء المديني يمثله الملحن الكبير محمد جواد اموري ومحمد نوشي.
كما شهدت فترة السبعينيات تطور اسلوبية الملحن عباس جميل ومحمد نوشي , (اللذين يحسبان على فترة الخمسينات والستينات) حيث غيّرا في الحانهما بما يتماشى مع تطور الأغنية في هذا الفترة , فمثلا لحن محمد نوشي أغنية عادوا الغياب , ليلة ويوم , وعشك أخضر.. في حين الحانه لفترة الخمسينيات كانت من نفس لون الحان الاغنية البغدادية السائدة في فترة الخمسينات.
يذهب البعض على أعتبارالاغنية السبعينية جاءت كنوع من التمرد على الاغنية البغدادية البسيطة في تراكيبها ، ولكن كما هو معلوم فأن سنن الطبيعة التي تخضع لعوامل وشروط التطور الطبيعي من ولاده الى نمو الى اندثار ، ينطبق هذا الحال على الاعمال الفنية بشكل عام ومنها الاغاني بشكل خاص .. فمثلما شكلت اغنية الخمسينيات ذروة التعبير الموسيقي عن مرحلتها ولبت شروط التطور في الغناء انذاك ، جاءت الاغنية السبعينية لتعبر عن مرحلتها والارهاصات الفنية والسياسية والاجتماعية التي كانت سائده في وقتها ، فعملية التطور الطبيعي في المجتمع من خلال التعليم وانتشار الفنون والانفتاح على تطور الاغنية في العالم العربي والعالم بصورة عامة وتطور الذائقة السمعية لدى الجمهور ، كل هذه جعلت من ظهور الاغنية السبعينية حتمياً ونمواً طبيعياً ، وكل عمل فني هو الوليد الشرعي لمرحلته ولما هو سائد من أوضاع اجتماعية وثقافية وسياسية لكل مرحلة
أغنية " يا ليل البنفسج " غناء ياس خضر ..كلمات الشاعر مظفر النواب .. تلحين الفنان طالب القرة غولي
لجان فحص الأصوات.
عقد السبعينات كسابقاته من العقود ، عند أنشاء الأذاعة والتلفزيون في العراق شهد تشديدا على لجان فحص الالحان والنصوص ( التي كانت تشكل بوابة المرور لاحتراف الغناء)، هذه اللجان وغيرها الكثير من اللجان في مجالات اشتغالات الفن الاخرى كانت سمة من سمات هذه المرحلة ، وهي نتاج طبيعي لظروفها السياسية والاجتماعية وخاضعة لاشتراطات ثقافية وسياسية ، فمن جانب كانت حريصة على الارث الفني للغناء العراقي ووفقاً للمعايير المتعارف عليها ، من جانب اخر كانت تلتزم بالسلامة الفكرية للمؤسسة السياسية ، سيما وان العراق انذاك كان يمتلك وسائط محدوده في نقل الغناء الى الجمهور من التلفزيزن والاذاعة والكاسيت ، فهي وفقاً لهذه الاشتراطات كانت ضرورية اذ لا يمنح صفة مغني الا اذا كان حائزاً على امكانية تلبية المعايير الصارمة التي تحكم عمل اللجنة ، من جانب اخر هذه المعايير كانت تقف عائقاً احياناً امام التجديد الذي غالباً ما يكون متمرداً على القواعد والمعايير بأعتباره انطلاقة جديده ، كانت لجنة فحص الاصوات والالحان تتكون من الاساتذه الموسيقين الخبراء وهم ( وديع خنده - محمود عبد الحميد - روحي الخماش - علاء كامل - خضير الشبلي - خزعل مهدي - جميل سليم )
واحياناً كثيره كانت تخضع هذه اللجان للرقيب الامني للتدقيق بمرجعيات الشخص الثقافية والسياسية ، ورغم اهميتها النسبية الا انها كانت تقف عائقاً امام المجددين فعملت على تهميش بعض الفنانين الذين كان لهم حضوراً متميزاً كمطربين مثل سامي كمال/ وكمال محمد او ملحنين كبار وهم مدارس تلحينية امثال كوكب حمزة ملحن ( يا طيور الطايرة ، شوك الحمام، أبنادم ، الگنطرة بعيدة ) ، وغيرها الكثير من الالحان الجميلة والرائعة ، كذلك حصل التهميش للملحن نامق اديب ملحن (تايبين ومجروحين لياس خضر) و (مشكورة لفؤاد سالم) ومفيد الناصح الذي له بصمة في تاريخ الاغنية فمن الحانة (يالجمالك سومري لفاضل عواد ) والفنان جعفر حسن رائد الاغنية السياسية الذي لحن قصيدة أغضب التي غنتها انوار عبد الوهاب.
فترة السبعينيات لم تكن مرحلة واحده كاملة متصلة وانما نستطيع القول انها كانت على مرحلتين ، المرحلة الاولى من 69 الى 77 والتي توفر للفنانون خلالها بيئة سياسية مناسبة لأن يعبروا عن ايديولوجيتهم ومواقفهم الأجتماعية والسياسية بحرية نسبية , لذلك كانت الاعمال الغنائيه في هذه الفترة الاولى من عقد السبعينيات في اوج تألقها وازدهارها وتطورها الفني والأسلوبي ، اما المرحلة الثانية من 77 الى 80 وبداية الحرب العراقية الايرانية , شهدت تحولا سياسيا حيث عاودت السلطة السياسية (بعد أن تعاظمت امكانياتها وتغولت ) منهجها في ملاحقة وقمع الرأي الآخر وفضت شراكتها مع الأحزاب السياسية الأخرى وأنفردت بالحكم وملاحقة وسجن المعارضين لنهجها , والتضييق على الأبداع وحرية ممارسته مما حدا بالكثير من المبدعين في مجال الغناء الى الهجرة خارج العراق وعلى رأسهم الشاعر مظفر النواب والفنان جعفر حسن والملحن كوكب حمزة والمطرب سامي كمال وقحطان العطار وفؤاد سالم وغيرهم الكثير.. اما الذين آثروا البقاء فقد كيفوا انفسهم لما حملته هذه السنوات من تغيرات .
مثلما شهدت الفترة المـتأخرة من السبعينات هجرة أعداد كبيرة من الملحنين والمطربين الى خارج البلد , فقد شهدت كذلك صعود جيل من الملحنين والمطربين مثل جعفر الخفاف سرور ماجد وعلي سرحان ومضر قاسم ومحمود أنور وأحمد نعمة وغيرهم ممن سيشكلون ملامح الاغنية العراقية في ثمانينات القرن العشرين، وهذا ما سنأتي عليه في بحثنا القادم.
ملاحظة : تم نشر هذا البحث في موقع الحوار المتمدن بالعدد 5204 بتاريخ 25/6/2016 ..للاطلاع يرجى الدخول من هذا الرابط