جغرافية المقام العراقي - فاطمة الظاهر
2013-08-04
تشير أغلب المصادر والمراجع الى أن جذور المقام العراقي تمتد الى العصر العباسي الذي كان يتسم بالثراء والانفتاح على الثقافات الاخرى من خلال التراجم أو من خلال التلاقح الثقافي الذي كان يتفاعل وينصهر في بوتقة المدينة (بغداد) التي كانت مزارا ومقاما لكل طالب
كتابة : فاطمة الظاهر
تشير أغلب المصادر والمراجع الى أن جذور المقام العراقي تمتد الى العصر العباسي الذي كان يتسم بالثراء والانفتاح على الثقافات الاخرى من خلال التراجم أو من خلال التلاقح الثقافي الذي كان يتفاعل وينصهر في بوتقة المدينة (بغداد) التي كانت مزارا ومقاما لكل طالب علم وفن من كل بلدان العالم القديم ...هذه المدينة التي شكلت واقعا أقرب لخيال وأحلام كل مبدع ومجتهد وفي كافة المجالات السياسية والاقتصادية والعلمية والادبية والفنية ...الى حدود وصفها بالمدينة الجامعة لكل الثقافات التي كانت متسيدة آنذاك...فلا عجب أن ترى تنوعا بالاقوام والاجناس واللغات التي يجمعها عنوان مدينة بغداد (دار السلام ) الحاضنة لكل هذه التنويعات الحضارية التي تعزف على وتر السلام والابداع والانتاج الحضاري الانساني .
في ظل هكذا بيئة ثقافية وأجتماعية نشأ فن المقام ، انه الوليد الشرعي للمدنية والحضارة ، أي أنه نتاج حضارة الوفرة المادية والروحية التي تجلت بأغنى صورها في ذلك العصر ووجدت تعبيراتها الموسيقية بما أنتجته مدرسة ( العوادين) التي كان على رأسها المبدعين ابراهيم وولده أسحاق الموصلي وما تبعه من نتاجات الكندي والفارابي والارموي الذين أسهموا في تأسيس قواعد فن الغناء والموسيقى العربية عزفا وتنظيرا .
أن مما يلفت النظر، هو ذلك الارتباط العضوي بين فن المقام والمدينة (الحضارة ) ، على الرغم من تراجع دور بغداد الحضاري وأنتقال جغرافية الحضارة الى مناطق مجاورة كأيران وتركيا ، إلا انها أحتفظت بالمقام كواحد من خصائصها معبرا عن روحها التي أنطفأت أو خمدت على مدى قرون بعد سقوط بغداد على يد هولاكو وماتلاه من تعاقب السيطرة الفارسية والعثمانية على العراق ، حيث شهد العراق أسوء مراحله الحضارية الى الحد الذي أطلق عليها ب(الفترة المظلمة) التي سعت الى محو ذاكرة هذه المدينة العظيمة. وعلى الرغم من كل ذلك أحتفظت بغداد ببعض من ذاكرتها ومكابرتها من خلال اللغة والحكايات المروية والعادات والتقاليد والتعابير الفنية عن هذه الحالات الانسانية والتي كان المقام العراقي واحدا من أهم هذه التعبيرات التي تستحضر ألق عظمة بغداد لأدامة التواصل مع كينونتها التي حاول الغزاة سلبها .
حافظ المقام العراقي على أشكاله وصياغاته الفنية من خلال الانتقال الشفاهي بين الاجيال ، وعلى القواعد الصارمة التي تحكم طريقة أداءه ، وكذلك بكونه أرتبط بحياة الناس معبرا عن أفراحهم وأحزانهم ، مرتبطا أشد الارتباط بطقوسهم الدينية والدنيوية .
لقد أحدث سقوط الدولة العثمانية وأحتلال الانكليز للعراق في عشرينيات القرن المنصرم تطورا مهما في أحداث تماسات مع الحضارة الغربية من خلال نقل النظم الادارية والاقتصادية والثقافية الى الدولة العراقية الوليدة التي سعت الى أرسال البعثات العلمية للدراسة في الجامعات الاوربية لغرض سد النقص في الكوادر الوطنية المؤهلة لأدارة هذه الدولة لاسيما بعد الاستقلال ورفع الوصاية الاستعمارية عنها. لقد أنعكست هذه التطورات وتفاعلاتها على البنى الثقافية ومنها فن الموسيقى وخاصة المقام العراقي الذي شهد تطورا ملحوظا علي يد المجدد محمد القبانجي وماتبعه من تلامذته .
أن أنتقال بلاد مابين النهرين من مجموعة من الولايات التابعة الى الدولة العثمانية الى دولة موحدة ومستقلة يحكمها ملك وعلم ودستور ، أفرز واقعا جديدا ، واقع الاحساس بالهوية الوطنية التي أفتقدتها بلاد مابين النهرين منذ سقوط آخر دولة وطنية عراقية وهي الدولة الكلدانية عام ( 539 ق م ) على يد كورش ملك الاخمينين. لقد أستعاد المقام العراقي هويته بقيام الدولة الجديدة التي سعت الى تشكيل نمط جديد من أرتباط الافراد بدولتهم ....دولة واحدة ، تعزف على تنويعات أثنية ودينية ومذهبية تتسق في هارمونية الوطن الواحد ، كذلك الثقافه ، فقد أتسقت مع مبدأ الوحدة والتنوع وعبرت عنها بالأسهام الجاد والحقيقي لكل المكونات الثقافية التي شكلت عنوانا لما يمكن تسميته ب( الثقافة العراقية)...ثقافة التنوع تحت هوية جامعة .
أن الراصد لجغرافية أنتشار المقام على خارطة الثقافة العراقية ، يمكنه رصد ثابت واحد ومجموعة من المتغيرات...الثابت هو أن المقام لم يزل يعبر عن روح المدينة وارتباطه بكينونتها الحضارية ، والمتغير هو ماتضيفه كل مدينة من روحها وبيئتها لجسد المقام. لذا يمكن رصد أربعة مراكز مدنية مهمة لهذه الجغرافية مركزها بغداد كحاضنة تاريخية له والموصل وكركوك والبصرة كمراكز لمدن تاريخية وثقافية تتسم بخصائص تعكس بيئتها التي اضيفت لفن المقام ، قد لاتمس جوهر البناء اللحني والفني لهذا الفن ولكنها أعادت أنتاجه بما يتسق مع بيئتها وموروثها الثقافي .
يمتاز المقام العراقي بكونه لون غنائي عراقي ، وهو عبارة عن أنغام مترابطة ومنسجمة فيما بينها ، وقد يظن من يسمع بهذه التسمية ، ان المقام العراقي هو سلم موسيقي , ولكنه في الحقيقة هو تسمية لقالب غنائي .
المدرسة البغدادية للمقام تتسم بخصائص متنوعة , تعكس تنوع طرق أداءه التي تفاوتت بين الطريقة التقليدية لقراءته وبين المجددين ، ففي بداية القرن التاسع عشر كانت هنالك مجموعه من الطرق والاساليب لقراءة المقام العراقي ، ومن ابرز هذه الطرق طريقة رحمة الله شلتاغ المولود عام 1793 الذي يعود اليه الفضل في ادخال الكثير من المحسنات النغمية في الغناء ، واليه تنسب طائفة من الاساليب والاصول المبتكرة في قراءة المقام ، فقد ابتكر مقام التفليس التركي الذي استنبطه من مقام السيكاه الفارسي ، وكذلك طريقة الحاج حميد النيار المولود عام 1813 ثم تلته طريقة حمد بن جاسم المولودعام 1817. وطريقة خليل رباز واحمد زيدان وطريقة قدوري العيشة المولود عام 1861 ، والذي اثرت طريقته على القبانجي .
في بداية القرن العشرين ( ونتيجة للتغيرات الاجتماعيه والسياسيه التي اعقبت سقوط الدوله العثمانية واحتلال الانكليز للعراق ) ، شهد المقام العراقي طرق واساليب جديده لقراءة المقام كان من ابرزها طريقه رشيد القندرجي المولود عام 1886 ، و طريقة محمد القبانجي المولود عام 1901 والذي تبنى طريقة قدوري العيشه وقام بنقلها وتطويرها وابتكار مقام اللامي ، وادخاله نغمة الابراهيمي الى مقام الحسيني ، ونغمة النهاوند في مقام البيات ، ونغمة القطر في الحكيمي كما ادخل الالات الحديثه على جوق الجالغي البغدادي المرافق لقراءة المقام ( كالعود والقانون والكمان) . حيث امتد تأثير هذه الطريقه على امتداد القرن العشرين وحتى الوقت الحاضر ، أذ ان اغلب اجيال القراء التي تلته نسجت على منواله .
ان موضوع قراءة المقام العراقي في بغداد أخذ حقه الكاملة والوافي من خلال البحوث والدراسات التي اجريت عليه وأتت على شرحه وتفصيله وذكر اركانه وانواعه وفروعه والالاته الموسيقيه واشهر قراءه ، ويكاد يكون معلوماً ومفهوماً بشكل واسع لجمهور محبي المقام العراقي والمهتمين به.
اما المقامات التي تغنى في الموصل وكركوك والبصرة ، فأن المقام العراقي لم يقتصر على بغداد فقط ، انما انتقل ومنذ قرون عديده الى بعض المدن الكبيرة والتي تعتبر مراكز اشعاع حضاري مثل هذه المدن آنفة الذكر . وبما ان لكل من هذه المدن خصائص , (بيئية وثقافية وأثنية ) تميزها عن بعضها ، لذا فقد كيفت طرق قراءة المقام تبعا لموروثها وبيئتها ، أذ أن قراءها حافظوا على جسد المقام كما ورد لهم من بغداد ، اما الاضافات التي حصلت فهي جزئية تتسق مع البيئة الثقافية الجديدة الحاضنة . ويمكن رصد تعبيرات ذلك من خلال تنوع تلك الاضافات في كل من تلك الحواضن , فيمكن ملاحظة تأثير موقع الموصل الجغرافي الذي يجاور ويتفاعل مع الاتراك من جانب ومع حلب التي ترتبط بعلاقة تاريخية معها وتأثير هذه العلاقة وتفاعلها على قراءة المقام بالاضافة الى البيئة الداخلية لمدينه الموصل والتي تتسم بالتنوع الاثني والديني ، واذا ما أنتقلنا الى كركوك سنلحظ أن أكثر القراء للمقام من التركمان ، ويرجع سبب ذلك في أغلب الظن الى نسبة التركمان العددية والتي تمركزت في مركز مدينة كركوك الى المكونات القومية الاخرى (العربية والكردية) التي توزعت على أطراف مركز المدينة ، وبما أن المقام وكما ذكرنا سابقا أقترن بالمدينة فكان طبيعيا أن ينهض به التركمان لاسيما وأن الاتراك لهم أرث وافر في تطوير المقام والموسيقى الشرقية والتي أنعكست على قراءة المقامات الكركوكلية . وأذا كانت القراءة الموصلية والكروكلية قد أحتفظت بجسد المقام وتنقلت بين المقامات الرئيسية وتفرعاتها , وأضافت له بعضا من موروثها فأن قراء البصرة للمقام قد كيفوا المقام القادم من بغداد بما يتوافق مع بيئتهم الثقافية والاجتماعية التي تختلف كثيرا عن الحاضنة الام بغداد ، وكذلك عن الموصل وكركوك . أذ تتسم القراءة البصرية على تفضيل مقام البهيرزاوي والحكيمي على غيره من المقامات الاخرى كونه ينسجم مع أيقاعات (الخشابة) التي حلت محل الجالغي البغدادي ، أضافةً الى ان هذين المقامين يتلاءمان مع الثقافة والذوق العام للبصرين وهما الاقرب الى أجوائهم وروحيتهم.
فالمقام العراقي في البصرة يقرأ كما يقراءه البغداديون بكامل أركانه وكما جرى قراءته في بغداد ، ولكن جرى تغير في الآلات الموسيقيه المصاحبه لانشاده ، حيث تم تحويل الآت الجالغي البغدادي والمصاحبة لقراءة المقام والمتعارف عليها في مدينة بغداد والتي تتكون من ( الجوزة ،السنطور ، الرق ، النقارة والطبله ) تحولت جميعها الى إيقاعات بصرية والتي تعرف بالخشابه و بشكل رئيسي واساسي فتدخل ايقاعات الخشابه بكامل القراءه والقطع والاوصال .. والمتتبع لمشاهير قراء المقام في البصرة امثال ( عبد الرجمن ابو عوف وحميد الياسر وعبد الحميد البناي ... وغيرهم ) يجد مدى التناغم والانسجام بين صوت الالات الايقاعية للخشابة مع المقام العراقي .. والتي تعكس الثقافه الفنيه وموروثها الشعبي الذي تفردت به البصرة دوناً عن مناطق العراق الاخرى . وسوف نأتي على تفصيل خصائص المقام العراقي في كل منطقه من هذه المناطق بشكل كامل في مقال جديد.
المراجع
1- المقام العراقي - ثامر عبد المحسن العامري – وزارة الثقافه والاعلام العراقيه – دار الشؤون الثقافيه العامه- 1990
2- المقام العراقي – الحاج هاشم الرجب – منشورات مكتبة المثنى -1983
3- الغناء العراقي – حمودي الوردي – مطبعه اسعد – بغداد – 1964
4 -المقام العراقي وأعلام الغناء البغدادي – الشيخ جلال الحنفي – الدار العربيه للموسوعات – 2000
5- دليل الأنغام لطلاب المقام – شعوبي ابراهيم خليل – منشورات المركز الدولي للدراسات الموسيقيه التقليديه – 1982
6- كتاب مؤتمر الموسيقى العربيه – المجلس الاعلى للثقافه - القاهرة - 2007
7- الموسيقيون والمغنون خلال الفترة المظلمة - الحاج هاشم الرجب - منشورات المركز الدولي لدراسات الموسيقى التقليدية - دار الحرية للطباعة - بغداد - 1982
|