تفاصيل المقال
الموسيقار فريد الله ويردي أسس أول مكتبة موسيقية في العراق
01-03-2017
نقلاً عن جريدة المشرق الالكترونية
في الثامن من شباط عام 1963 وقع الانقلاب العسكري الدموي في العراق وحكم على فريد الله ويردي غيابيا بالاعدام بسبب تأليفه الموسيقي لانشودة "المنصورية"، التي حظيت بالشعبية في ظل جمهورية ١٤ تموز. واعتبرته السلطات "شيوعيا" بسبب شخصيته المستقلة وموهبته الثرة ورفضه المهادنة وافكاره المتحررة وشعوره بالكرامة الانسانية.
كان من ابرز المؤلفين الموسيقيين العراقيين الذين عملوا على إنهاض الثقافة الموسيقية العراقية المعاصرة. وقد احتل مكانه في طليعة الحركة الموسيقية الكلاسيكية في العراق. وكان أول مؤلف موسيقي، وربما الفنان المعاصر الوحيد، الذي حاول بالرغم من انظمة الطغيان في العراق ان يتجاوز بإرادته الابداعية حدود وطنه وان يقدم نتاجاته على الساحة الموسيقية العالمية. فعُرفت مؤلفاته في الولايات المتحدة وفرنسا واليابان وروسيا وسويسرا وسورية ومصر والعديد من بلدان الشرق الاوسط في الحفلات الموسيقية وبرامج الاذاعة والتلفزيون.
ولد فريد في البصرة، وكان والده عيسى نوري طبيباً من أهالي كركوك وأمه فكتوريا اوسكانيان أرمنية من عائلة معروفة في اسطنبول. وأمضى فترة طفولته المبكرة في البصرة التي كانت تتسم بالتعددية الاثنية والدينية ويقطنها ابناء مختلف القوميات المحلية والوافدة. وأتيحت له فرصة نادرة للتعرف منذ نعومة أظفاره على طيف واسع من الاصوات التي استقرت في تلافيف دماغه: اغاني أمه الصغيرة بالعربية والارمنية والتركية والفرنسية، وصيحات الباعة في الشوارع... وشحاذ من البدو ينشد مع الربابة ومواكب الاعراس في الشوارع مع قرع الطبول وعزف الزرنة.. والاطفال يرددون الآيات القرآنية.. والدرويش الهندي الجالس في ظل نخلة وهو يردد كلمات غير مفهومة.. بينما يتعالى صوت المؤذن داعيا الناس الى الصلاة.. وينشد قس كلداني ابتهالات من الكتاب المقدس.. وغير اولئك وهؤلاء الذين تركوا فيه جميعا أثرهم، مما جعله يتجاوز الحدود الاثنية والدينية والقومية. كان يتقن عدة لغات؛ العربية والفرنسية والانجليزية والروسية والتركية وشيئا من اللغة الكردية.
ولد فريد الله ويردي في العام 1924 التحق بكلية الحقوق وتخرج منها في العام 1948 وكان تخرجه من كلية الحقوق دافعا للإفادة من مسيرة النهل من علوم الموسيقا التي سيطرت على لبه، فقد كان يواصل دراسته في معهد الفنون الجميلة حيث تخرج فيه وكان يعتصره شعور بان دراسته للموسيقا في بغداد تظل ناقصة!
عازف الفيولا الموسيقار فريد الله ويردي الثاني من جهة اليمين
لذا قرر السفر الى باريس للحصول على اكبر قدر علمي في الدراسة المنهجية للموسيقا، وايضا لكي يتخصص في الاقتران بعلوم المعرفة البرنامجية للهارمونية. ادرام الهارمونية والبوليفونية أتقن العزف على آلة (الفيولا) كما ان شعوراً باطنيا قد طغى وميضه على عقله الداخلي ، أدرك من خلاله ان الهارمونية والبوليفونية(علم انسجام الاصوات) و(علم تنافر الاصوات) هما جناحا التأليف الموسيقي البرنامجي، لذلك بعد عودته من باريس ألف بتمكن رباعية وترية والرباعية هي قالب موسيقي لاربع الات قوسية وترية وهي (كمان أول، كمان ثان، فيولا وجلو) ووقت ظهور هذه الرباعية 1953 كانت الحياة الفنية العراقية تخلو من التفكير بأرهاصات التطوير التأليفي في الموسيقا، لذلك أفتقرت الى العمق والسعة والامتداد والثقة بالغريزة المبدعة، لكن المقاصد المكونة للحوافز تتقدم في باطنية فريد الله ويردي لتكون توابع تدور في فلك الانجاز عند فريد الله ويردي ، لذلك كان يتابع عن كثب مايدور في مصر من حركة انجاز للموسيقا التأليفية على يد نخبة من الموسيقيين من امثال (يوسف جريس، ابو بكر خيرت ، جمال عبد الرحيم، حسن رشيد) وسواهم، لذلك قرر السفر الى موسكو لدراسة التأليف الموسيقي وأمضى هناك مدة من الزمن أعقب ذلك السفر الى الولايات المتحدة الامريكية لمزيد من الدراسة للموسيقى وكان الهاجس الذي دفع فريد الله ويردي لمثل هذه الرحلات العلمية هي التمكن من الجانب الاكاديمي بشقيه النظري والتطبيقي في الدراسة الموسيقية وعندما عاد الى بغداد إنهمك في سلك التدريس في معهد الفنون الجميلة وفي أكاديمية الفنون الجميلة ، الى جانب عمله في المؤسسة العامة للاذاعة والتلفزيون آنذاك ، حيث أسهم اسهاماً فعالا في تأسيس أول مكتبة موسيقية متخصصة بالمسح الميداني وهذه المكتبة تحولت فيما بعد الى مركز للدراسات الموسيقية الدولي التابع لدائرة الفنون الموسيقية.
يمتلك الموسيقار فريد الله ويردي في بيته العديد من المؤلفات الموسيقية تلك التي لم تر النور لاسباب يعرفها الجميع، وهي ظلامية الظروف التي مرت بالعراق وعوامل وأد البوادر الحضارية تلك التي تتفجر هنا وهناك على ان الطابع الذي يسيطر على مؤلفات فريد الله ويردي هو ابراز الظواهر الجمالية في البناء الموسيقي والقالب الموسيقي حيث غلبت عليه الروح التصويرية وكانت الجوهر الحقيقي لاعماله. على اننا لا ننفي ان امكانات التأليف الموسيقي في العراق تضمحل، كلما وجدنا ان الدولة تتراخى في الدفاع عن الجانب الجمالي في الموسيقى وتزداد الحالة سوءا عندما نكتشف افتقار المعاهد الموسيقية الى اساتذة أكفاء وطغيان الركاكة والميوعة على اجهزة البث الفضائي والتلفزيوني والاذاعي وتفشي المحسوبية وغياب المناهج التربوية في الدراسة الموسيقية ونقص درجة القابلية للفهم والادراك، كل ذلك وغيره ادى الى شيوع التقهقر في الاتجاه نحو الموسيقا الرفيعة ذات البرنامج وهذا مما حدا بالناقد الموسيقي الراحل اسعد محمد علي الى ان يطلق على فريد الله وردي لقب رائد التأليف الموسيقي في العراق، ونضيف ان فريد الله ويردي لم يكن موسيقيا حسب بل كان مفكرا في الموسيقى أشغل نفسه بكل شيء يمت للموسيقى بصلة على الصعد الزمنية والتاريخية والانسانية لم يعرف دعة او راحة او قناعة وهو في مسعاه العظيم للوصول الى جوهر عمله التاريخي في فن التأليف ويلمس نوازعه الى المسافات والاعماق فالروح الجليلة التي تلبست فريد الله ويردي بقيت رزينة رائعة عميقة في شخصه الغائب.غيب الموت الفنان والمؤلف الموسيقي العراقي فريد الله ويردي في مدينة دبلن في ايرلندا في 1/2/2007 عن عمر ناهز الثمانين عاما.
نقلاً عن جريدة المشرق الالكترونية
المزيد من المقالات