تفاصيل الخبر
الحلقة الاخيرة – حكاية لم تكتمل فصولها – قصة العازف الراحل علي حمدان
2016-06-14
الحلقة الرابعة والاخيرة من ( حكاية لم تكتمل فصولها .. قصة العازف الراحل علي حمدان حيث نختم بها المراسلات التي جرت بين السيدة (هناء حمودي) والدة الراحل علي حمدان ورفيقة رحلته, وبين الأستاذة فاطمة الظاهر مديرة ومؤسسة موقع الوتر السابع.
الحلقة الاخيرة – حكاية لم تكتمل فصولها – قصة العازف الراحل علي حمدان
الغالية فاطمة أسعدك الله في دينك ودنياك .
لقد تأسفتي لي عندما طلبتي مني أن أحكي لك عن رحيل علي وقلت أنها ستثير شجوني ، نعم حبيبتي ستثير عندي شجون وشجون وشجون لكنها شجون ليست كأي شجون ...إنها مختلفه عن أي شجون آخرى ....وربما أبالغ إذا قلت لك أني والحمد لله حمدا كثيرا وشكرا لله شكراً كبيرا ، أن الله أكرمني وأوسع عليٌ بنعمه وعطاياه ، فالله سبحانه عندما اصطفى علي ليكون بقربه ترك لي روحه ساكنة في روحي لا تبارحها حتى تفارق روحي جسدها ، لقد ترك روحه معي وبقربي وحولي أينما ذهبت و كيفما أدرت وجهي أتنفسه وأحسه وألمسه وأناجيه وأساهره وأسامره يتسلل إلى فراشي ويعانقني وينام بقربي ونغفو سويا ، يسمعني رنة ضحكاته يسمعني أرقى ألحانه يسمعني فرح موسيقاه التي يشدو بها في دار خلوده ، يهمس لي (ماما لا تحزني أنا بقربك أحيا في ثنايا روحك) ، فالجسد فانٍ والروح هي الباقية
رحل جسد علي نعم وما فائدة الجسد بلا روح كروحك يا علي ...ما هو همي ، إن كان الله ( له الحمده والشكر) استبقى روحك في روحي كما كنا دائما ، كم وكم و كم من أناس يحييون ويعيشون سنين طوال ليزهوا ويفتخروا وهي تعيش عالة على مجتمعها بلا عمل مخلص ينفعون به أنفسهم أوغيرهم متناسين أن جلٌ ما أمرنا الله به هو الرقي الروحي والإنساني والذي لا نصل إليه إلا بالعمل الصالح والإخلاص له ، وهذا ما لخصته في حياتك يا ملاكي خلال سبعة عشر عاما من عمرك السعيد ، أشعر وكأنها سبعين عام ولله الحمد .
بسم الله الرحمن الرحيم " وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِير" (110) سورة البقرة
وقوله تعالى :" أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21)﴾. [سورة الجاثية]. " صدق الله العظيم .
قبل رحيل جسد علي تاركا وراءَهُ هذه الدنيا الزائلة ، كنت إذا مرض علي أو توجع كانت تسودٌ الدنيا بعيني وأمضي الليل أسهر بقربه أدعي وأصلي من أجل شفائه لم تكن الفرحة لتعود إلى قلبي إلا عندما أراه تعافى ، لم يكن في قاموس حياتي أن أحيا من دون علي فأنا وهو جسدان بروح واحدة ونحمل داخل ارواحنا نفس المشاعر من أفراح وأحزان وأوجاع وهزائم ونجاحات وأحلام وطموحات ، وإخلاصنا للعمل كان هاجسنا الدائم ، وغيرها الكثير من المشاعر التي لا تحصى ولا تعد ، كل هذا كان مسخُر بعون الله لعلي ، علي هو شمسي وقمري هو ليلي ونهاري هو هوائي و أنفاسي والنسمة الربيعية الي تنعش قلبي هو الملاك الذي أكرمني به الله تبارك وتعالى هو هدية الله لي ، علي هو الذي ابكى السماء حين غادرها ، فكيف أحيا بدونه ، كنت أتصور نفسي لمجرد فكرة أن يحدث مكروه لعلي أني سأموت أو سأفقد عقلي وأسرح تائهة في الشوارع ، مرارا كنت أصحو من نومي مفزوعة على إثر حلم مزعج وأركض لاهثة خائفة داعية الله أن يكون مجرد حلم واتفقد علي في فراشه وامسح على رأسه وأقبله وأنا أنظر إلى وجهه الملائكي شاكرة الله أنه بخير وأن وأن وأن ...... أفكارا كثيرة كانت تخطر ببالي عندما يصيب علي أي مكروه حتى أن بعض المقربين يصفونني (بمجنونة علي) وان لدي هاجس إسمه علي ، كنت أعذرهم فهم لم يصلوا بصفاء روحهم إلى المرحلة التي تجعلهم يدركون أن علياً ليس كأي أحد آخر وأني بما أفعله لعلي ليس لي به يد ولا ناقة ولا جمل وإنما بأمر الله وبإلهام منه وبعناية منه وبقوة وصبر أغدق بهم على روحي لتكون كما كانت مع الملاك علي، أشكر الله وأحمده على عطاياه .
فبعد كل هذا ، كيف تتوقعون أو تتخيلون حالتي بعد ما حلٌ بعلي ؟ لقد أبى علي أن يغادرني إلا بعد أن اطمأن أني وبعون الله وصلت إلى حالة من الرقي الروحي.
لقد رفعني الله عاليا عن الأرض ، غيبني عن مغريات الدنيا ، باركني إذ أخذ علي وأبعده عني ، لكنه بالمقابل أعطاني ما هو أسمى وأرفع وأنبل وأرقى وأجمل من علي ، أعطاني القرب من الله ، باركني إذ جعلني بقربه وعرفني بنفسه أكثر، علمني كيف أرضى فيما يفعل ، وأن لا أتمنى زوال الحاله التي أقامني الله فيها ، فهو أدرى بي من نفسي وأرحم بي من أمي .
بسم الله خير الأسماء بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيئ في الأرض ولا في السماء ، أبدأ قصة رحيل الجسد الطاهر رحمه الله وغفر له وأدخله فسيح جنانه ، وكما كانت حياة علي حياة غير عادية وكما أكرمه الله وأكرمني فيها ، له الحمد ، كذلك كان رحيل علي رحيل غير عادي أكرمه الله وأكرمني به له الشكر و الحمد على عطاياه ، فأنا أمه وهذا أبيه وهذه أخته الغالية آيه نشكر الله ونحمده ونصلي له ليل نهار لأنه أكرمنا بأبننا علي وأعزنا بعطيته لنا ذاك الملاك الطاهر الجسد والروح الذي استبقاه عندنا سبعة عشر عاما ثم أسترد وديعته.
بعد فترة قصيرة من ولادة علي ، بينت الفحوصات الطبية أن علي كانت لديه مشكلة بسيطة في القلب وهي تضيق بالصمام وقد عرضناه على الأطباء فأجمعوا أن الأمر لا يستدعي الخوف ولا العمل الجراحي ومع هذا كنت آخذ علياً بشكل دوري الى طبيب قلبية ناجح جدا في اختصاصه كان يطمنني ويقول لي: لا تخافي الأمر لا يستدعي القلق ، ولكي أطمأن أكثر طلب مني أن أعرضه عليه مرة كل سنة وهذا ما كان يحدث.
تتالت السنين ووضع علي الصحي جيد والحمد لله حتى أنه لم يشتكي من أي شيئ يخص قلبه وكأن الله سبحانه وتعالى وضع هذا السبب لعلي بدون أن يعاني منه خلال حياته فقط من أجل أن يكون سببا لرحيله ، سبحان الله ، إن الله يفعل ما يريد ، اللهم لا إعتراض على أمرك وحكمك.
مضت سبعة عشر عاما من دون أن يشتكي علي من قلبه ولا يوم واحد ، إلى أن أخذ الله سبحانه وتعالى بتهيئة الأمور والأسباب .
قبل رحيل علي بإسبوع فقط ، بدأ عليه الشعور بالتعب فأخذته إلى طبيب القلبية الخاص به وقال لي أموره جيدة ، تصوري يا أختي كيف أن الله سبحانه وتعالى قد أعمى بصيرة هذا الطبيب الناجح والانسان القدير الذي غاب عنه ، أن التعب الذي كان يمر به علي كان سينتهي مباشرة بعد تناوله حبة مدرٌة للبول ، علما أنه لم يضطر علي إلى هذا الدواء بحياته كلها ، لم يشأ الله أن يلهمه الطبيب بهذا العلاج البديهي ، وذهبنا الى غيره من الاطباء الا ان الله أبى أن يلهم احدهم هذا العلاج البسيط والنافذ لتحسن صحة علي.
في الوقت نفسه كان علي في بداية العطلة الصيفية وكان قد بدأ التحضير المسبق مع الأساتذة من أجل الثانوية العامة حيث كان من المفترض أن يتقدم في العام الدراسي القادم لإتمام المرحلة الثانوية وبعدها يسافر الى دمشق للإلتحاق بالمعهد العالي للموسيقا ، وكان أيضا مواظبا على الذهاب الى النادي الموسيقي لآخر لحظة بالرغم من مرضه في ٱخر إسبوع له في هذه الدنيا ، ففي آخر درس له حزن جدا أستاذه في الأورغ وأستاذته لما رؤه من تعب واضح على علي حتى يومها كانت عيني قد تشكل فيها بقعة دم على إثر سهري وحزني لما أحل بعلي ، فقالوا له آساتذة النادي لماذا أتيت وأنت مريض فقال علي مازحا : حتى لا تشتاقوا اليٌ ، فضحكوا وبادلوه بعضا من مزاحهم ، تصوري يا عزيزتي وكأن علي ذاهبا لوداعهم ووداع ناديه الموسيقي الذي أمضى فيه إحدى عشرة عاماً.
انتهى درس علي وغادرنا الى البيت وأنا عقلي يفكر أن هذا الوضع يجب أن أضع له حد وأنا في طريقي للبيت فكرت وقررت أني سآخذ علي الى طبيب في دمشق عله يتبين له سبب ما يمر به علي من تعب واضح في تنفسه ، تناقشت بالأمر مع والده واتفقنا على أن نسأل عن أفضل طبيب قلبية في دمشق ونتفق معه على موعد وفعلا هذا ما حدث أخذنا موعدا بعد يومين من مكالمتي الهاتفية له .
أختي العزيزة فاطمة أريد منك أن تنتبهي جيدا لكل حدث أرويه لك في هذه المرحلة لأني سبق وقلت لك في بداية حياة علي أن هناك أموراً ربما ترين أنها غير مهمة ولكن عند انتهاء حياة علي ستكتمل الدائرة وسيكتمل اللحن الشرقي الأصيل الذي اتى به علي من السماء ليشدو به ويرحل .
كان موعدنا مع الطبيب في دمشق بعد يومين خلال هذين اليومين اتصلت مع جميع اساتذة علي ، إن كانوا بالموسيقى أو في دروسه العادية ووضعتهم بصورة الأمر وألغيت جميع الدروس وطلبت من علي أن يرتاح ولكنه في آخر يومين كان يتنقل من الأورغ الى آلة القانون فيعزف على الأورغ أغنية أم كلثوم ألف ليلة وليلة ويعزف على القانون ألحان خاصة به وكثيرا ما لمحته يبكي بصمت وكأنه يودع أنغامه وآلاته ، ونوطاته الموسيقية المترامية في كل مكان في البيت ، راح علي يودع كل شيئ من دون إدراك ، ويشهد الله ان الإحساس بأنه سيغادرنا لم يدخل إلى قلبي ولا لحظة ولكن قلبي كان يعتصر ألما وحرقة لمرضه.
في هذين اليومين كان عند علي ومنذ فترة طويلة عصفورة ملونة جميلة كان كل يوم يخرجها من القفص لمدة طويلة لتطير داخل المنزل وكان سعيداً بها ، كانت تقف احياناً على رأسه أو كتفه وهو يعزف وكان مهتما جدا بطعامها وشرابها وكل شيئ ، أما في اليومين الأخيرين أهمل علي عصفورته فقلت له : لماذا تهملها فأجابني دعيها ستموت ، لم أكترث لكلامه ولكنه أضاف : ضعي لها طعاما وماء ففعلت ما طلبه مني .
من جانب آخر كان أحد أقارب زوجي وقتها قد توفي وهو رجل مسنٌ ويسكن قريبا من منزلنا ، أصر علي على الذهاب ليقوم بواجب العزاء فقلت له: يا علي الا ترى انك لا تسطيع المشي من كثرة لهاثك ، فقال: وليكن يجب أن أذهب ، فتركته يفعل ما يرضيه ورحت أراقبه من النافذة كيف يمشي بضع خطوات ويقف ليرتاح ، وأنا أبكي بحرقة وصمت لما يحدث لملاكي ، قام علي بواجب العزاء حيث لم يترك علي واجبا كهذا خلال حياته وكأنه رجل كبير والحمد لله.
عندما عاد علي طلب مني أن أعمل له على الغداء أكثر أكلة يحبها وهي جوانح الدجاج البانيه تحديدا والتي لا تناسبه حينها بسبب مرضه لأنها ستتعرض للقلي بالزيت فقلت له لن أصنعها لك فهي ستؤذيك ولكني لم أجد نفسي بعد وقت قصير إلا وأنا أصنعها له فنظر الي كعادته نظرة المنتصر ورحت أضحك أنا وهو .
و في صباح اليوم الثاني أخذته برفقة عمه آصف وهو محبب جدا ومقرب من علي الى أحد الأطباء في اللاذقية ، وأثناء عودتنا ونحن في السيارة كان علي يراقب الطرقات والشوارع والشجر وكل شيئ ، وإذ به يقول عبارة ما زالت ترن في أذني لليوم وهي (الحمد لله لقد لففت كل الطرقات وهذه الأماكن قبل أن أمرض ) فأخذنا أنا وعمه نهون عليه ونقول له طول بالك يا علي بإذن الله ستشفى وتعود أفضل مما كنت عليه ولكنه لم يجيب وظل يبتسم ويراقب كل ما حوله وكأنه يودع كل الأماكن و الحياة والدنيا الزائلة بأكملها.
في المساء لم أنمْ لا أنا ولا هو كنا نتكلم وكان أغلب حديثنا إيماء بلا كلام ، في اليوم الذي سبق هذا اليوم كنت قد رأيت بمنامي المنام الذي قصصته عليك الذي رأيت فيه السيدة العذراء عليها السلام وهي تكلمني وتواسيني بأجمل ما خلق الله من كلام وكانت تعانقني وتربت على كتفي ارجعي الى رسائلي السابقة وتذكري هذا المنام والذي كان الله سبحانه تبارك وتعالى يمهد به لي الطريق لرحيل ملاكي علي .
المهم عندما سهرنا أنا وعلي تلك السهرة نمنا بعض الشيئ وفي الصباح انطلقنا أنا وعلي وعمه آصف الى دمشق لنعرض علي على الطبيب ، دمشق هذه التي يعشقها علي والذي أراد الله له أن يودعها ، ففي طريقنا اليها ونحن في باص البولمان مسك علي موبايله وراح يصور ما تقع عليه عينيه من أماكن جميلة فيها ولكنه كان بغاية الحزن لأن الأحداث في سورية كانت قد بدأت في دمشق من دون أن يستطيع أحد تفسير ما يحدث من أمور غريبة لم نكن معتادين عليها .
عندما وصلنا دمشق كان الوقت مازال مبكرا ، ذهبنا الى الطبيب وفي اللحظة التي وقعت عين الطبيب على علي قال لي مباشرة: أعطيه حبة دواء مدرة للبول ، تصوري يا أختي لم يمضي ساعة حتى شعر علي بالإرتياح ، وكأن ما حدث مسحة رسول كما يقولون ، وكأن شيئا لم يكن ، يعني لو أن طبيبه في اللاذقية أعطاه هذا الدواء منذ البداية لتغيرت مجريات الأمور ولكن حاشا لله أن أفكر بهذه الطريقة فالله يفعل ما يشاء وعندما تنتهي الأعمار لايستقدمون ساعة ولا يستأخرون ، سبحان الله الذي له إرادته وعلمه وحكمه في كل ما يفعل .
فحص الطبيب علي واقترح علينا أن نجري لعلي عمل جراحي لتوسيع الصمام أختي فاطمة كل ماجرى مع علي ومعنا في هذا اليوم والذي يليه كان بلمح البصر والشاهد الله وكفى به شهيدا ، فتبينت من الطبيب بعض الأمور وقال لي من المناسب أن نجري العملية ، فقلت له أريد أن أجريها له في مشفى محدد في اللاذقية وأريد منك أن تجريها له حيث كان هذا الطبيب كثيرا ما يذهب الى هذا المشفى لإجراء عمليات طبعا المشفى خاص وليس حكوميا ، فأجاب الطبيب بالرفض وقال أنه لم يعد يتعامل مع تلك المشفى واتضح فيما بعد أنه كاذب ، المهم حينها وبناء على رأيه اقترح علينا أن نجري العملية لعلي في مشفى خاص في دمشق ، المشفى التي يعمل فيها الآن وهي أيضاً مشفى خاص ، فأجريت حينها اتصالا هاتفيا مع زوجي ونحن عند الطبيب لكي يتكلم معه ويضعه بحقيقة الموقف فتكلم معه واتفقنا أن نجري العملية بعد يوم ، أتى زوجي في نفس اليوم الى دمشق و ذهبنا الى
ثلاثة أطباء قلبية لنجري فحصا لعلي والكل أجمع أن العملية باذن الله ستكون موفقة لأن الطبيب الذي اخترناه لإجرائها طبيبا جراحا ماهرا وخبيرا وفعلا هو بهذه المواصفات ، في إحدى هذه العيادات حملني علي وصيته من دون أن يدري ولا أدري ، حيث قال لي عندما بدأت أتكلم مع المتواجدين في العيادة ، وأتيت على ذكر علي لأعرفهم بملاكي وأنا خائفة أن أزعجه إذا تكلمت عنه لأنه وكما أخبرتك سابقا أن علي لم يكن يرغب بالحديث عنه ودائما يقول لي: لا تتكلمي عني فأنا لم أفعل شيئا بعد ، كل ذاك النجاح وكل ذاك اللمعان والإنجازات الا انه لم يقنع بما قدمه لحد الان ، المهم حينها احترمت رغبته التي أعرفها وسكتّ عن الكلام وإذ بعلي يقترب مني ويهمس لي (ماما لماذا سكتي ،إحكي عني) ،فنظرت إليه متفاجئة وقلت هامسة: من متى يا علي تحب أن أتكلم عنك ؟ أعاد جملته وكررها باسما (إحكي عني).
عندما اتفقنا نهائيا على العمل الجراحي عدنا الى بيت أختي ليقضي علي آخر يوم في حياته وينام في تلك الغرفة التي ولد فيها وتنام أختي معي ومعه تماما كما كان الوضع حين ولادته وكل هذه الأحداث وأنا لم يخطر ببالي لحظة أن علي سيفارقني ، وأنه على غير عادته هذه المرة سيسافر لوحده من دون ان أحمل له الأورغ ونطير سويا
هذه المرة فضـّل علي الرحيل بمفرده والطيران من دوني .
في صباح اليوم التالي ذهبنا للمشفى وكلنا أمل بأن القادم أجمل كنا نمازح علي ونضحك ونرفع من معنوياته ،وصلنا المشفى وقد كان بصحبتنا أنا وزوجي وعلي ،عمه وأخي وأختي وزوجها ثم لحقت بنا أختي وزوجها أيضا من طرطوس فعلي غالي على الجميع إلا آيه بقيت في البيت ،كلها تدابير الله سبحانه وتعالى ، في هذين اليومين جميع من كان في المشفى في قسم القلبية كان قد تعرف على علي ، كل واحد منهم أصبح متشوقا لسماع موسيقى علي ، وراحوا أيضا يرفعون من معنوياته قبل الدخول الى غرفة العمليات ويطلبون منه التحسن سريعا حتى يعود بصحة جيدة الى جوه الموسيقي ، لم يكن هنالك شيئ لغاية الآن ينبئ بالخطر ، فكل شيئ ممتاز والإستشارات الطبية الي جمعناها من الأطباء بشأن العملية كلها مطمئنة وأشطر طبيب جراح هو من سيقوم بهذه العملية ، كله تمام والحمد لله ،وعلي بأحسن أحواله وحتى أنه كان متألقا ونضرا وسعيدا وصحته كانت قد تحسنت على إثر الدواء المدرّ للبول الذي وصفه له الطبيب الذي سيجري العملية ، وكل الوقت كتاب الله كان معي ، فقد اصطحبت من بين المصاحف في بيتنا في اللاذقية الكتاب الذي كان يقرأ فيه علي وبقي معي ولغاية هذا اليوم لا أقرأ القرآن إلا فيه دون سواه ،والحمد لله .
إذن كل الأمور كانت مطمئنة ، وأنا الآن أحلق عاليا من سعادتي والفضل لله وها هو علي يأتيه الممرض ليلبسه مريول الذي سيدخل فيه الى غرفة العمليات ، في هذه اللحظة بالذات ولغاية دخول علي الى غرفة العمليات أصبحت لغة التخاطب بيني وبين علي بالعيون فقط من غير كلام إلا بعض العبارات ، وفي هذه اللحظة بالضبط وقبل دخول علي غرفة العمليات بخمس دقائق يأتي قاتل ابني والذي هو طبيب التخدير والعلم عند الله وحده ، يكلمني أنا وزوجي ويحذرنا من التخدير ، كلام أنزلني من سابع سماء ودفنني تحت الأرض فقلت له: لماذا توقيت تحذيرك أتى قبل دخول علي العملية بخمس دقائق فقط لماذا ونحن من يومين نجري الإستشارات والكل طمئننا أن الأمور كلها جيدة ، كل هذا الحديث وكل ما حدث بعده والشاهد الله سبحانه وتعالى كان قد حدث برمشة عين وكأن الزمن كان يلعب لعبته من دون أن يعطينا فرصة دخول اللعبة ، أقول هذا الكلام لأن كثيرين راحوا يقولون لنا ويلوموننا أنا وزوجي ، لماذا لم نرفض العملية حين حدث هذا الموقف وحين دخل الشك لقلبي تجاه طبيب التخدير هذا القاتل الذي جاهد بابني ، فأقول لهم أن الشك لم يدخل قلبي حينها وأني وبعد أن قال لنا ما قاله صحيح أنه اقتلع الفرح من قلبي وأحبطني ولكن أقسم بالله أني سرعان ما عدت لتفاؤلي وأملي اللامحدود بالله عز وجل وبقيت على هذه الحال لغاية الآن والحمد لله ،يا أختي فاطمة لا خوف على مؤمن تولاه الله ألف الحمد والشكر لله . ولكن لا أنكر أن طبيب التخدير هذا أصبح بالنسبة لي وكأني أرى غرابا ينعق أمامي هو دون الآخرين وحده ، هذا الغراب الذي سلمته لله الذي لا يضيع عنده حق .
والآن سيأخذون علي الى غرفة العمليات ، صعدوا في المصعد فقلت لهم أريد أن أكون معه بنفس المصعد فلم يمانعوا ،القرآن بيدي أضمه الى صدري وأردد في قلبي آية الكرسي العظيمة ، وعيون علي ونظراته المتعلقة فقط بعيوني ونظراتي وحدها العيون كانت تتكلم حينها فالعاشقون يهوون لغة العيون وعلي هو عشقي الخالد الذي لا يموت ، وصلنا الى قسم العمليات فودعه أبيه وعمه وخاله وخالاته وشجعوه ودعوا الله أن يرجع لنا متعافى ،أما أنا فالله القادر الكريم الغفور اللطيف بدأ يغدق بكرمه على قلبي وروحي ويدخل السكينة اليهما بالتدريج وأصبحت أتصرف مع علي وأقول كلام وأنا لا أعلم أن الله سبحانه وتعالى يكرمني ويلهمني كلمات أودع بها أبني لا تليق الا بالملائكه مثله .
أن كل ما حدث معي وبشهادة كل من كان حولي منذ ساعة دخول أبني علي المشفى لغاية ما وارى جسده التراب وحتى اليوم ، لم يحدث مع انسان غيري ، "وأما بنعمة ربك فحدث" وأنا والحمد لله لقد أكرمني الله بحياته وبعد رحيله ، فلم يصدمني الله عز وجل او يفجعني بموته المفاجئ بل اخذه سبحانه وتعالى من بين أحضاني رويدا رويدا تماما ، في الوقت ذاته كان يملئ قلبي ونفسي بالهدوء والسكينه والرضى بحكمه وقضاءه .
اذن أنا الآن أقف بمفردي مع علي ولا أشعر بوجود أحد غيرنا مسكت قرآنه ، وضعته على رأسه ومسحت به صدره ويديه فقبل علي القرآن وعيوننا ما زالت تتناجى ، وذهب علي لغرفة العمليات وأُغلق الباب ولم تمر ثواني حتى ناديت أحدهم وقلت له أرجوك دعني أدخل أريد أن أقول شيئاً لعلي ، فقال لي لا يجوز هذا وغير مسموح الدخول بعد هذا الباب ولكني أصريت على طلبي وألحيت عليه فتعاطف معي وفتح لي الباب ، كان علي على بعد بضعة خطوات فنظر إلي ينتظر مني ما أريد قوله له ، نظرت إلى ملاكي الى عصفور الجنة الذي يستعد للطيران محلقا وعائدا الى دار خلوده بعد أن أنشد لحنه السماوي على هذه الآرض ، نظرته كانت تستعجلني بقول ما أريد قوله ، نظراته كانت تغرف من روحي وقلبي كل ما بثنايا القلب من حب وحنان حتى يأخذهم معه زوادة لطريقه ريثما يصل الى بيته في جنته التي اشتاقته واشتاقت أنغامه ، فتحرك لسان حالي ليقول له و بالحرف الواحد: (علي حبيبي إنت شاب عظيم أنت أعظم شاب بالدنيا يالله روح ياعمري الله معك ) ولوحت له بيدي ، كل هذا وأقسم بالله العظيم أن الشك لم يدخل قلبي ولو ثانية بأني أودعه الوداع الأخير ، بل بالعكس فبعد أن طال انتظاري أمام غرفة العمليات طلبوا مني المغادرة إلى غرفته لأنتظره فيها وقالوا لي عندما تنتهي العملية سنكلمك على تلفون الغرفة .
عدت وجلسنا أنا وزوجي نخطط ونتحادث عن كيفية التعامل مع علي بعد انتهاء العملية ونذرنا الأضاحي لطلعته بالسلامة وفتحت القرآن ورحت أقرأ فيه بكل رضى ، كلمونا الساعة الثانية عشرة ظهرا بالضبط وقالوا انتهت العملية فركضنا كلنا ووقفت أنا وزوجي أمام الطبيب الجراح وهو يحمل بيده أصنصا وراح يقول لنا سعيدا مفاخرا بانجازه الحمد لله أن العملية قد تمت بنجاح مائة بالمائة ورفع الأصنص الذي بيده وقال لي انظري يا أم علي هذا ما كان يزعج علي حيث أجرينا له توسيعا للصمام وهذه القطعتين اللحميتين هما ما اجتزأتهم لأوسع له الصمام ، ويا لفرحتنا وسعادتنا بكلامه كنا نطير فرحا وقال لنا بالحرف الواحد(أن الساعة الآن هي الثانية عشر ظهرا ولن نقوم بإيقاظ علي من التخدير قبل الساعة الثانية عشر ليلا حتى نعطيه الفرصة والوقت الكافي ليصحو وهو مرتاح وأكد لنا أنه يجب أن يكون موجودا وودعنا بعد تهنئتنا بنجاح العملية وانصرف)،عدنا الى الغرفة ونحن نشكر الله ونحمده ودموع الفرح على خدي وأخوتي برفقتي يبكون معي فرحا في هذه الأثناء كنت قد تكلمت مع آيه وطلبت منها المجيئ فحضرت الى المشفى.
في حدود الساعة السابعة إلا ربع مساء جائتني مكالمة الى الغرفة وقالوا لي تفضلي الى غرفة العناية لأننا نقوم بمحاولة إيقاظ علي فانتفضت قائلة ولماذا توقظونه الآن وقد طلب طبيبه ألا توقظونه قبل الثانية عشر ليلا ، فقالوا طبيب التخدير موجود وقد أحب أن يجري محاولة ، أني أروي كل ما حدث وما قالوه بالحرف الواحد بلا زيادة ولا نقصان ، فتصوري معي أن طبيب التخدير أحب أن يجري محاولة فقلت لهم مستهجنة محاولة؟ وسكت عن الكلام وصعدنا جميعا الى غرفة العناية المشددة ووقفنا أمام غرفة العناية المشددة ما يقارب النصف ساعة وشعرنا أن هناك أمر ما غير طبيعي يجري حولي من استهتار فقد رأيت إحدى الممرضات تحمل كيسا من الطعام تفوح منه الرائحة وتدخل به الى غرفة العناية المشددة في مشفى خاص له اسمه وسمعته، الشيئ الذي شعرت به أن ما يحدث وراء هذه الجدران هو أمر غير طبيعي أو هنالك أمر ما حدث فيه خلل أو خطأ وهم يحاولون تصليحه بل كل ما يجري حولي كان يوحي بشيئ واحد هو الخيانة ، في هذه اللحظة رحت أنظر بوجوه من معي وجدتهم يحملون نفس التعابيرعلى وجوههم وزوجي جمد في مكانه ينتظر أن يخرجوا إلينا خرج أحدهم فقلت له : الم تقولوا لي انكم توقظون علي من التخدير وأنه استيقظ وعلى هذا الأساس دعيتموني ، لقد مضت نصف ساعة ولم أدخل إليه فأجابني : انتظري قليلا ، في الحقيقة كان معهم حق أن يترددوا في الاجابه على أسئلتي لأن الأجابة ليس عندهم بل عند طبيب التخدير الذي يأخذون منه التعليمات ، وبعد قليل وإذا بطبيب التخدير يأتي من الخارج متجهاً نحو غرفة العناية المشددة فنظرت اليه وتسائلت مضى أكثر من نصف ساعة وأنا أنتظره اعتقدت أنه بالداخل عند علي !!!أليس من المفترض أن يكون عنده أليس هو المسؤول عن هذا الأمر علما أن الطبيب الجراح حذرهم من إيقاظ علي قبل الثانية عشر ليلا ؟؟؟ رحت أخاطب نفسي يا الله ماذا يحدث ؟ عندما رأيت طبيب التخدير بمشيته المتباطئة المتسللة كأفعى زاحفة إلى وكرها ، هذا هو الشعور الذي انتابني فدخل وهو على هذه الحال ونحن ننظر اليه من دون أن يكلمه أحد منا ، وبعد دخوله الى غرفة العناية المشددة ببضع دقائق استدعوني بمفردي لادخل فدخلت مسرعة ووقفت أمام السرير الذي عليه ملاكي علي ووقف أمامي قاتل ابني وراح يكلمني وأنا أنظر لعلي وقلت للطبيب ألم تقولوا لي أن علياً استيقظ من بنجه. ابتداء من هذه اللحظة دخلت في حالة من اللاوعي من دون أن أفقد وعياً حالة تجعلك هادئة لدرجة المبالغة حالة تجعلك تتكلمين بذهول وتنظرين بذهول حالة غريق يرفض الغرق حتى لو تعلق بخيوط الشمس حالة بالمختصر المفيد الله وحده يعلمها وأنا ليس لي فيها يد ولا أملك تفسيرها .
تكلم القاتل وقال بالحرف الواحد ويشهد الله أن ما أرويه لك هو ما جرى بالضبط ، قال لي وهو يشبك كفيه أمام بطنه: لقد صحي علي فعلا من البنج وتكلم معنا وكان لذيذ وحبّوب وطيوب ومتجاوب ، فقاطعته مستغربة هذه الألفاظ اللاطبية والتي لا تتناسب مع الموقف أبدا وقلت له : كل هذا فعله علي حين أيقظتوه من بنج لعملية قلب مفتوح وأنا أنظر إليه وكأن غرابا أمامي ، وأكملت قائلة بكل ذهول وماذا حدث بعد ذلك ؟ فأجابني بهدوء شيطاني ، ما حدث أن علياً عندما استيقظ عاد وغاب عن الوعي فاضطرينا لصدمات كهربائية ما أدى الى الموت الدماغي عند علي!!!!!!!!!!!!!
قالها يا أختي فاطمة وكأنه يمسك خنجرا ويغرسه في قلبي ،فقلت له بذهولي لماذا أيقظتوه وقد طلب منكم الطبيب الجراح ألاّ توقظوه قبل الثانية عشر ليلا ويحضر هو شخصيا ، فأجابني لقد أحببنا أن نجري محاولة .
ما يمنعني أن أتكلم بكل شفافية أننا لا نملك أي دليل يدين هذا القاتل ولا حتى في التقرير الذي كتبوه في المشفى حيث تغيرت كل الحقائق ولم يبقَ دليل واحد يدين هذا القاتل وأي دليل هذا الذي سيدينه في زمن الحرب والقتل والدمار
فعل القتل والدمار والجهاد من وجهة نظر الإرهاب لم يبقَ محصورا في ساحات المعارك والشوارع والمدارس بل راح يطال غرف العمليات الجراحية في المشافي على أيدي ضعاف النفوس على أيدي من غسلت أدمغتهم ومن سلمناهم أرواحنا أمانة فخانوها .
ما كتبته في هذه الرسالة كلفني الكثير الكثير من الصبر والتحمل والإرادة والمكابرة لأسرد اصعب المواقف التي امتحنني بها الله عز وجل ، فسلمت أمري الى الله ونعم بالله وكيلاً ، علي شهيد وراء الكواليس ولأننا لا نملك دليلاً على ما أصاب علي ولا شاهد حيث جميع من في المشفى لفلفوا الموضوع لصالح الخائن (طبيب التخدير) ، ففي زمن الحروب لا يبقى مكان للحروف والمعاني أسأل الله تعالى أن يحتسب ابني شهيدا كما كان يرغب ويشتهي ، كان يتمنى هذه الأمنية على مدار أشهر قبل رحيله.
أبلغني طبيب التخدير أن صدمات الكهرباء سببت لعلي الموت الدماغي ،الحقيقة يا أختي ما أبلغني فيه هذا المجرم المغيب المغسول الدماغ هو مجرد رواية ليزف لنا خبر وفاة علي فهو يخبئ وراءَها الحقيقة والطريقة التي اتبعها مستغلا اختصاصه لينهي حياة انسان وجد فيه المواصفات الملائمة من كل الإتجاهات حتى يجاهد فيه ، لا يعلم هذا الشيطان انه قتل الحق والصدق والأخلاق والطهارة والإيمان المطلق بالله وحده عز وجل قتل إنسانا ينطق بشهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله ، قتل ملاكا أرسله الله سبحانه إلى هذه الدنيا لينشر الأمل والحب والفرح فيها ليعلم الآخرين كيف يكون الإنسان ساعيا في هذه الحياة بكل جهده وكده وتعبه ليصل الى مبتغاه ، قتل كلمة الله التي أراد بعلي أن يقولها ، قتل إنسانا مؤمنا بالله الواحد وبرسله وكتبه السماوية وبأن الدين لله وحده والوطن للجميع ، قتل انسانا ما زال علم فلسطين في خزانته لغاية اليوم قتل إنسانا بالرغم من صغر سنه لكنه يعي تماما ويعرف من هو عدوه الحقيقي ومن علينا تصويب السلاح ضده ، قتل الطهر والبراءة حين قتلك يا حبيبي علي ، والله لو أنه هدم الكعبة لكان ذنبه أقل حسابا عند ربه ،عزائي الوحيد أنك يا علي رحلت مظلوما ولم ترحل ظالما وأنت على ثقة أيها المؤمن الطاهر أن الله لن يضيع حق المظلومين ، و الحمد لله الذي يفعل ما يشاء ولا يفعل غيره فعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم .
اما بالنسبة لزوجي انهار تماما وأصبح هاجسه قتل طبيب التخدير الذي اختفى بعدها ولم نعد نراه أو نعرف له مكان ، وبالنسبة للطبيب الجراح الذي استدعيناه مباشرة ولم يأتِ إلا في وقت متأخر وكأنه خاف من الذي حدث ولم يكن منه ألا أن رفع يديه قائلا أنا عملي نظيف والعملية ناجحة مائة بالمائة ولست مسؤولاً عما حدث بالمناسبة هذا الطبيب الجراح توفي بعد ابني علي بمدة قصيرة على إثر مرض ، المهم انه راح يدافع عن نفسه ويلقي اللوم على طبيب التخدير
والنتيجة أن علياً الآن سيبقى في غيبوبة وتحت التنفس الإصطناعي الى ما يشاء الله
في هذه الأثناء راح يصلنا كلام واقتراحات أن نرفع عن علي التنفس الإصطناعي لأنه لا جدوى من ذلك فأجبتهم أني لن أفعل هذا حتى لو اضطرني الأمر إلى أن أبقى عمري كله أرعاه وهو على هذه الحال على أمل رجوعه الى حضني وقلت لهم أن العناية المشددة لم تعد تنفع علي إنما العناية الإلهية هي مبتغاي ورجائي ونعم بالله ، بقيت بجانب علي أقرأ له القرآن وفي صباح اليوم التالي كنا قد توصلنا أنا وزوجي إلى قرار أن نطلب سيارة مجهزة بما يلزم لحالة علي لننقله الى المشفى العسكري في اللاذقية وهذا ما حدث بعد أن كتبت المشفى تقريرها الذي لا يحتوي على كلمة صحيحة واحدة مما حدث حتى أن أطباء المشفى في اللاذقية سخروا من هذا التقرير ، في هذه الأثناء كانت مشفى اللاذقية تعج بالمصابين من عساكر الجيش حيث كانت كل
يوم تخرٌج عددا كبيرا من الشهداء ، حمدا لله أن علياً كان من بينهم بإذن الله ، فمثلك يا علي يستحق الشهادة ، ملاك مثلك لا يعقل أن يغادر هذه الدنيا الزائلة بطريقة عادية ، مثلك يقابل وجه ربه بدمائه وهو مكلل بالغار.
على الرغم من كل الأسى واللوعة والحرقة والألم والفجيعة !! لكن يشهد الله على كلامي أن حالتي لم يكن أحد بشري ليستطيع تفسيرها ،لله الحمد والشكر ، يا أختي فاطمة لا تسأليني عما فعله زوجي أو أي أحد آخر خلال كل هذه المرحلة التي يمر بها علي بغيبوبة والتي دامت يومين بدمشق وستة أيام بمشفى اللاذقية لأني رحت تدريجيا أدخل بحالة أقامني بها الله عز وجل بقدرته ومشيئته وعطفه وكرمه تبارك وتعالى ، حالة تخصني أنا وعلي حالة توارت فيها الأجساد خفّ ثقلها لتسمو فيها الأرواح وتتعانق ، يا أختي العزيزة صحيح أني لم ألتقيك يوما ولكن أشعر وأنا أكلمك وأحكي لك أنك أمامي وأنك تفهمين تماما وتعين تماما ما أقوله لأن أحاسيسي هذه وما وضعني فيه الله
ليس بمقدور أي كان أن يفهمها ويقدرها ويشعر بقدسيتها ، ستة أيام في مشفى اللاذقية كنت لا أفارق علياً و قرآني والمسبحة هما رفيقاي لم يكن علي يسمع مني لا نواحا ولا نحيبا ولا بكاء كل ما كان يسمعه كلام الله سبحانه وتعالى وأدعية لله أن يعود علي الي سالما كنت متأكدة وإحساس خفي يؤكد لي أن علي يسمعني كنت انا وهو حيث روحه تسكن روحي نناجي الله بأشياء وأشياء دعائات وابتهالات وصلوات وآيات عظيمة راحت تقربنا من الله أكثر وأكثر ، اتبعت الصيام كل تلك الفترة لا آكل إلا عند المغرب الشيئ القليل ، وفي الثلاثة أيام الأخيرة فارقت النوم تماما كنت امشي أمام علي وأمسك المسبحة لقرائة أية الكرسي وغيرها من الآيات الصغيرة العظيمة كنت أشعر بروح علي تحوم حولي ويشهد الله أني وصلت لمرحلة أني شعرت أرتفع عن الأرض وقداماي لا تطئانها والله على ما أقوله شهيد .
في أحد المرات وانا بقربه لا أعلم لماذا خطر ببالي أن أضع بجانب أذنه الموبايل وأسمعه أغنية أم كلثوم ألف ليلة وليلة وعندما رفعت الموبايل عن أذنه رأيت عبارة: البطارية ضعيفة على شاشة الموبايل فقلت له: سبحان الله لقد ترفعت روحك يا حبيبي عن هذه الألحان ، وأصبحت روحك تصبو إلى ألحان سماوية ، بإذن الله كان علي يسمعني ويشعر بي ويشاطرني وعودي وقربي من الله .
خلال هذه الغيبوبة توقفت المنفسة مرتين كنت في كل مرة أركض مثل المجنونة الى الطبيب المناوب ليراقبه كنت أشعر خلالها أني أصبت بالشلل في قدماي ولم أعد أقوى على الوقوف ، فأنا حينها لم أكن بعد قد وصلت ما يكفي من الصفاء الروحي الذي أراده الله لي ولعلي والحمد لله ، ستة أيام لم أكلم أحدا إلا فيما ندر كان كلامي ومناجاتي لله وحده الى أن أتى اليوم الرابع من الغيبوبة ففي الصباح لا أعلم ما هو هذا الإحساس الغريب الجميل الذي أوحى لي أن أصوم طيلة اليوم عن الكلام في هذا اليوم توصلت بمناجاتي أنا وعلي لله سبحانه إلى حالة أكرمني الله بها وهي أني أسلمت أمري لله ليس لأني لا أملك من أمري شيئا وإنما طواعية وطاعة لأمر الله: "يا الله يا جبار يا سميع يا حليم يا كريم يا عفو يا غفور أني بإذنك تعالى راضية سعيدة بأي حالة ستقيمني بها أنا وعلي" ، كانت نفسي راضية مطمئنة تتسلل إليها السكينة من حيث لا أعلم أفعل كل هذا وكلام الله لا يفارق قلبي ولساني وأنا أنظف شعرعلي وجسده بالمعقمات وأمسك بيديه وأصابعه لأدلكها ،لأن أكثر شيئ ممكن أن يحزن علي هو أن تتجمد أصابعه الملائكية.
كم هو جميل القرب من الله كم هو جميل أن يكون العشق لله وحده وكم أشكر الله وأحمده أن أكرمني بهذا العشق الالهي اللامنتهي لذاته سبحانه وتعالى.
جاء اليوم الخامس للغيبوبة وأنا أتقرب أكثر وأكثر لله وروحي تسمو وتسمو وتعلو وجسدي يفقد ثقله ، الشيئ الوحيد الذي كان يخطر ببالي أثناء هذا الإحساس هو كلام علي عندما كان يقول لي : أشعر يا ماما وأنا أعزف أني أطير وأرتفع عن الأرض ، كنت أناجيه وأقول له : أن ما كان يحدث معك يحدث معي الآن ، في هذا اليوم الخامس لا أعلم ما الذي جعلني أتذكر منامي الذي رأيته قبل العملية منام السيدة العذراء عليها السلام وهي تكلمني وتواسيني وتضمني لصدرها فطلبت من ٱحدى أخواتي أن يجلبوا لي زيتا من مقامها الذي كنت قد أخبرتك أني رأيته بمنامي بطفولة علي وبعدها اتضح لي أن المقام موجود بالحقيقة ففعلت وجلبت لي زيتا في المساء فدهنت به رأس علي وفمه وصدره ولا أعلم لماذا دهنت آثار ما بقي على يدي على رأسي وصدري واتكلت على الله الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد ، في تلك الليلة بقيت معي أختي سوسن التي ولد علي في بيتها وقلت لها سأنام نصف ساعة حيث كان في غرفة العناية المشددة سريرا فارغا بالصدفة وبعد أن نمت قليلا قلت لأختي اذهبي وارتاحي ، كنت حينها قد وصلت بعونه تعالى إلى ما أرادني الله ان اكون فيه ، كان كل من يراني وقتها يتلعثم مستغرباً معتقداً أني جننت أو أصابني هوسا ولم يكن هذا ليزعجني فأنا في عالم آخر لا يدرونه ولا يعرفونه ، وبعد أن نامت أختي ذهبت لسرير علي ورحنا نتكلم ونتسامر ونبارك لبعضنا قربنا من الله وغيره من الكلام الروحي كلام ليس بحاجة إلى فم ولسان للتعبيرعنه ، فقط يكفيك الإيمان الخالص المطلق الذي لاتشوبه شائبة أن الله يفعل ما يريد وأن ما يفعله بنا مهما كان ظاهره شر إنما هو بحقيقة الأمر خير لنا أقسم بالله العظيم أني أكتب هذه العبارات وأنا أبتسم وقلبي يكبر ويتسع لشكر الله ، في هذه الأثناء توقفت المنفسة فناديت أحدهم هذه المرة بصوت منخفض وبهدوء فأتوا مسرعين إستيقظت أختي أثنائها وذهبت الى علي أما أنا فوقفت على بعد خطوات مشغولة بمناجاتي أنا وعلي لله العظيم الحليم الحنون الرؤوف ، فسمعت أحدهم يقول لأختي خذي أمه خارجا وقولي لها أن علياً توفي فإقتربت منه وقلت بكل هدوء لماذا تأخذني خارجا إذهبوا أنتم لو سمحتوا أريد أن أكلم علي ، لم يسمحوا لي وبقوا بجانبي مذهولين بحالتي ، فقلت للطبيب هل أستطيع أن أضمه قال نعم كانوا قد أزالوا المنفسة والقسطرة ولفوه بشرشف أبيض ، عندما عانقته أصبح دم على ذراعي سألته لماذا الدم فقال من آثار القسطرة فهززت رأسي تلمست صدره تلمست جسده الطاهر كله قبلته بخشوع وشكر وامتنان لله أن اودعني ملاكا من جنته سبعة عشر عاماً وفي هذه الساعة يسترده ، ودعت جسده بعبارة : مبارك لك ولي يا حبيبي هذه الولادة الجديدة ، في هذه اللحظة شعرت كم هو جميل رحيل علي كما ولادته وكما حياته في هذه اللحظة شعرت أن الله بقربي أكثر من أي وقت مضى في هذه اللحظة جاءني إلهام أن علياً روحه تسكن روحي فلا تحزني.
عندما أقمنا مراسيم العزاء كانت الناس الكثيرة المتهافتة من كل صوب يستغربون لسكينتي ويرددون عبارة (نيالهاعلى صبرها وهذا لا يعطيه الله لأي كان ) وعبارات أخرى كان أجملها (أنت جمّلت الموت يا أم علي).
كنا عندما نذهب الى تربة علي أمنعهم من النحيب والبكاء فملاكي علي لا يحب الضجيج وكنت أيضا لا أسمعه مني إلا آيات القرآن الكريم ، الحمد لله هكذا اكتمل (لحن خلود علي) حيث روحه تسكن كل من عرفه وسيعرفه .
أختي فاطمة أقسم لك أن علياً لم يغادرني لحظة ، أقسم لك أني أشعر بوجوده أينما حللت وكيفما درت وجهي والحمد لله وما أطمح إليه ونذرت عمري من أجله أن أنفذ وصيتة وأحكي عنه للعالم كله بإذن الله وما علينا ألا ان نقبل بأي حالة يقيمنا الله فيها فهو أدرى بنا منا وأرحم بنا من أمهاتنا والله عندما يصطفي من عباده ليكونوا في جنان خلده ( عندما اختار اطفالنا ) يجب أن نكون مؤمنين أنه أرحم بهم منا وأرحم بنا من أنفسنا الحمد والشكر له ، والحمد لله الذي يفعل مايشاء ولا يفعل غيره
رحل علي في شهر تموز ( 11/7/2012 ) وميلاده كان في آذار الربيع ( 30/3/1995 ) ، وفي عام رحيله كان كثيراً ما يردد عبارة أن العالم سينتهي في هذا العام لكنه لم يكن يدرك أن عالمه هو الذي سينتهي ، عوضه الله بعالم أرقى وأنظف ان شاء الله.
فيديو تأبين الراحل علي حمدان
المزيد من الاخبار