العلاقات الأُسريَّة للملا عثمان الموصلي وبداياته الفنية - دكتور باسل يونس ذنون
2020-09-07
العلاقات الأُسريَّة للملا عثمان الموصلي وبداياته الفنية
الأستاذ الدكتور باسل يونس ذنون الخياط والمهندسة كفاح جهاد فتحي الملا عثمان الموصلي
الحديث عن الملا عثمان الموصلي (1854-1923م) يعني الحديث عن ينبوع عذب رفد الموسيقى الشرقية بأعذب الألحان، وتجاوزت ألحانه العالم العربي ووصلت إلى أروبا وشرق آسيا.
لقد كُتبت الكثير من المقالات عن العملاق الضرير عثمان الموصلي، كما تناولت سيرته العديد من الكتب، حتى أن المرحوم الدكتور عادل البكري (1930-2018) ألّف عنه ثلاث كتب. وفي العام 2009م أقامت جامعة الموصل ندوة علمية عنوانها "الملا عثمان الموصلي عبقرية الإبداع" ألقيت فيها العديد من المحاضرات القيمة التي تناولت جوانب مختلفة من سيرته.
وعلى الرغم من كل هذه التغطية عن هذه الشخصية الفذة، إلا أن العلاقات الأُسرية للملا عثمان ظلَّت بعيدة عن الأضواء. وقد احجمت معظم المصادر عن إيراد نبذة عن حياته الأُسرية بسبب الاهتمام بنتاجه الفني والأدبي على حساب حياته الاجتماعية، فضلا عن عدم وجود مصادر للمعلومات عنها.
وبعد تعرفي بالمرحوم الدكتور عادل البكري في أيامه الأخيرة، وعن طريق أحد أقرباءه تعرفتُ بإحدى حفيدات الملا عثمان، وهي السيدة المهندسة كفاح جهاد فتحي الملا عثمان الموصلي، وهي الكاتب المشارك بهذه المقالة، والتي وافتنا بالمعلومات الدقيقة عن أسرة الملا عثمان وذريته، والتي ننشرها لأول مرة في هذه المقالة من أجل التوثيق التاريخي.
الملا عثمان الموصلي هو عثمان بن الحاج عبد الله بن الحاج فتحي بن علاّوي السقّا المنسوب إلى بيت الطحّان، وهم من دليم الموصل؛ فخذ المحامدة ومن سكنة محلّة (باب العراق) (باب الجديد حاليا).
ولد عثمان سنة (1271هـ الموافق 1854م) في بيت قديم لعائلة فقيرة، كأبن رابع لوالده السقاء (عبد الله) الذي توارث مهنة السقاية (نقل الماء من نهر دجلة إلى البيوت)، حيث لم تكن تلك المهنة (السقاية) توفر للمشتغلين فيها حياة مرهفة.
ابتلاه الله بمحن كثيرة، فعندما كان عثمان في السابعة من عمره توفي والده تاركا أولاده برعاية أمهم المُعدمة، ثم هجم وباء الجدري على مدينة الموصل في السنة نفسها حاصدا الكثير من الأرواح، فأصاب عثمان وأفقده بصره ليغرق في عالم الظلام وليقضي بقية حياته مكفوف البصر.
وفي خضم الأحداث المتسارعة والعصيبة، وجد الطفل عثمان نفسه بين ثلاث زوايا قاسية: اليُتم والعمى والفقر. ثم لاح بصيص أمل حيث يسَّر الله له من يكفله ويرعاه ويهيئ له الأسباب للمضي قُدما بالاتجاه المُقدَّر له.
أخذه (محمود أفندي العمري)، وهو من الشخصيات الثقافية والاجتماعية المعروفة في الموصل، وخصص له من يُحفِّظه القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة والأحاديث الصحيحة وجانباً كبيراً من الشِّعر، ثم رتَّب له من يُدربه على الموسيقى ودراسة قواعدها وأصولها. فتفوق في هذه الميادين بسبب رغبته الشديدة في التعلم وقابليته للحفظ وذكائه الشديد.
شرع عثمان في تعلُّم علوم اللغة العربية على يد علماء عصره كالشيخ عمر الأربيلي والشيخ صالح الخطيب والشيخ عبد الله فيضي وغيرهم، وتعمق في دراسة الدين وارتدى زي رجال الدين، وهو الزي الذي لازمه ولم يتركه طيلة حياته. وكان الملا عثمان يجيد اللغتين الفارسية والتركية فضلا عن لغته الأم العربية.
تزوج عثمان في مقبل حياته في الموصل من امرأة موصلية اسمها (أرخيته) وأنجب منها ولديه أحمد وفتحي، وأرسله الشيخ (عبد الله رفعت العمري) الذي كان يشغل موقع مدير بلدية الموصل إلى تركيا للدراسة عند أحد معارفه هناك والمدعو (أنور متولي) الذي علّمه أصول القراءات والمقامات.
توفي (محمود أفندي العمري) الذي تولى رعاية عثمان في الموصل، فتوجه عثمان إلى بغداد لينضم إلى ابنه (احمد عزت باشا العمري) الذي كان أديبا كبيرا في بغداد، فتلقاه ملاقاة الأب والأخ فتهادته أكف الأكابر وحفت به عيون الأصاغر، وفُتح له أبواب المجتمع البغدادي الذي تلقفه إعجاباً بصوته وحباً بفنه وإنشاده الرائع للقصة الشريفة والمقامات العراقية.
وتتلمذ الملا عثمان على يد سيد المقام العراقي آنذاك (رحمة الله شلتاغ) وآخرين. وصار الملا عثمان المنشد الأول في الحضرة الكيلانية والتكايا والمساجد، وفي احتفالات الموالد الدينية في البيوتات الكبيرة. وفي أثناء إقامته في بغداد اتصل الموصلي بالشيخ داؤود والشيخ بهاء الدين الهندي (المدرس في الحضرة العلوية) فحفظ عنهما (صحيح البخاري) وقرض الشِّعر والموشحات باللغات الثلاث (العربية والفارسية والتركية) التي لحَّنها وغنَّاها فجمع من وراء ذلك ثروة أتاحت له أداء فريضة الحج. عاد بعدها إلى الموصل فدرس التجويد بالقراءات السبع، وقرأها في (حيدرة) محمد السيد الحاج حسين أمام جمهور كبير، ثم اتصل بعد ذلك بالشيخ محمد النوري (مرشد الطريقة القادرية) وأخذها عنه.
وفي أوائل العقد الأخير من القرن التاسع عشر، توجه عثمان الموصلي إلى إسطنبول التي كان تواقاً لزيارتها، فأقام في غرفة متواضعة في جامع (نور العثمانية) في حي (شنبرلي طاق). وقد حدثني قبل ثلاثين سنة المرحوم عبد الملك أغوان، والذي عاصره في أواخر أيامه، عن تفاصيل تعرُّف السلطان عبد الحميد الثاني (1842-1918) بالملا عثمان.
فبعد وصول الملا عثمان الى إسطنبول أراد أن يلتقي بالسلطان عبد الحميد الثاني، فقيل له لا يمكنك ذلك إلا في يوم الجمعة في وقت الصلاة في جامع (أيا صوفيا)، حيث يأتي السلطان وعلامة وصوله حدوث ضوضاء وتوقف قُراء القرآن عن التلاوة عند دخول السلطان الجامع.
جاء يوم الجمعة وذهب الملا عثمان إلى الجامع باكرا وجلس في الصف الأول ينتظر وصول السلطان، وقُرّاء القرآن يتناوبون في التلاوة، ثم حدثت الضوضاء وتوقف القُرّاء عن التلاوة، فعلم الملا أن السلطان قد وصل، وعلى الفور أخذ يقرأ بصوته الجهور أواخر سورة يوسف. وحاول قُرّاء السلطان منعه فتدخل السلطان ومنعهم وطلب من الملا أن يكمل التلاوة حتى وقت الخطبة.
أُعجب السلطان كثيرا بالملا، ثم جعله المقرئ الخاص به وقرَّبه إليه كثيرا. وتوطدت علاقة الملا عثمان بالسلطان حتى وصل به الأمر أنه قام بالغناء أمام حريم القصر، كما تطور الأمر ليقوم الملا عثمان بمهام رسمية للسلطان عبد الحميد.
لقد كانت إسطنبول عاصمة الامبراطورية العثمانية ومركز ثقافتها، ومن يبرز فيها يُعرف اسمه في جميع أنحاء الإمبراطورية، وقد ساعد هذا الملا عثمان وجعله مُرَحبا به أينما ذهب، ومكنه من تأسيس علاقات وطيدة مع مشاهير عصره.
لقد قرأ الملا عثمان في جامع (أيا صوفيا) الشهير وكان من أعظم القراء المجيدين، فأثر جمال صوته وروعة تجويده على مشاعرهم فأبكاهم وهرع إليه عظماء إسطنبول من فضلاء وأدباء وفنانين يستطلعون خبر هذا القارئ الضرير، فطارت شهرته في الآفاق وأصبح قبلة المجتمع العلمي والفني وعيَّنه السلطان عبد الحميد الثاني المعجب به رئيساً للمحفل الديني في جامع (آيا صوفيا)، ومعلماً للقراء الأتراك. والتف حولـه القُراء الأتراك فأخذوا عنه علم التجويد، وتاق لرؤياه أكابر الأمراء والعلماء والفنانين وغدوا يتهادونه ويدعونه إلى حفلاتهم للاستمتاع بروائع فنونه.
والتقى الموصلي بكبار الموسيقيين مثل جميل بك الطنبوري، وسامي بيك، والمغنية التركية الشهيرة (نصيب) فلحن لها عدداً من الموشحات والأغنيات الغزلية، وسجل بصوته ـ من دون مرافقة موسيقية ـ على أسطوانات بعض الأناشيد الدينية والابتهالات، وعدداً من الأغنيات بالتركية والعربية بمصاحبة موسيقية من جميل بك الطنبوري.
وخلال مدة اقامته في إسطنبول، وقبيل رجوعه الى الموصل بفترة قصيرة، تمرض الملا، فأرسلت إليه المغنية التركية (نصيب) إحدى قريباتها واسمها (معزز) لكي تخدمه وتعد له الطعام. فأعجب بحسن سلوكها وعرض عليها الزواج فوافقت وبقيت معه وليس له عقب منها. وعند عودته إلى العراق طلب منها مصاحبته، إلا أنها آثرت البقاء في تركيا.
أولاد وأحفاد عثمان الموصلي:
رُزق الملا عثمان بولدين، أحمد وفتحي: وقد خلَّف أحمد ثلاثة أولاد: عطية ورشدية وعلي. أما فتحي فقد صادف أنه مرَّ في مدينة السليمانية، ولما علموا أنه ابن الملا عثمان أكرموه وزوجوه فتاة جميلة من بنات الأغوات الأكراد اسمها (مريم عزيز)، وقد رُزق منها: جهاد، محمد سعيد، محمود، نجيبة، سعدية، شكرية، بدرية. وقد رُزق جهاد المهندسة كفاح والمهندس مؤيد وخالد وعفاف.